كنا في غاية السعادة ونحن نتابع المنصة التي أتاحها الدكتور هشام عثمان على تطبيق كلوب هاوس، حين استضاف أستاذنا الدكتور النور حمد ليعيد شرح رؤيته حول «العقل الرعوي» وموقعه في تشكيل الذهنية السودانية كانت الجلسة مدهشة في عمقها، ثرية في أسئلتها، وشفافة في تناولها لقضية ظلّت وما تزال مدار نقاش بين قطاعات واسعة من المثقفين السودانيين ومع تطور الحوار وتدفّق الأفكار شعرت بأن بعض ما أردتُ قوله لم يجد مساحة كافية داخل المداخلات القصيرة، فكان هذا المقال محاولة لتقديم رؤيتي بصورة أشمل وأدق، وإعادة وضع الأطروحة في سياقها الراهن، وتفكيكها من جديد في ضوء الأسئلة التي فرضتها الحرب وأزمة الدولة السودانية تقدّم أطروحة «العقل الرعوي» للدكتور النور حمد مفتاحاً تفسيرياً جريئاً للعطب البنيوي المتكرر في التجربة السودانية. فالنور لا يتحدث عن نمط حياة مرتبط بالرعي، بل عن بنية ذهنية وثقافية تشكلت عبر قرون، وانتقلت من الريف إلى المدينة ومن المجتمع إلى الدولة، وظلّت قادرة على إعادة إنتاج نفسها في كل دورة سياسية. إنها ذهنية تميل إلى الهيمنة أكثر من التعاقد، وإلى الولاء الشخصي أكثر من المؤسسية، وإلى الحلول الانفعالية السريعة أكثر من التخطيط العقلاني طويل النفس وبحسب الأطروحة، فإن الخرطوم نفسها لم تتطور إلى مدينة بالمعنى الحديث، بل أصبحت “قرية كبرى” تتجاور فيها البنية المدنية مع البنية التقليدية دون أن تنجح الأولى في تفكيك الثانية أو دمجها في مشروع وطني حديث وعندما ننظر إلى أداء الأحزاب السودانية، المدنية والعسكرية على السواء، تتجلى هشاشة المؤسسية في اعتمادها على الزعامة الكاريزمية لا على البرامج. فالحزب في كثير من الأحيان هو «الزعيم»، والدولة في كثير من الأحوال هي «الشخص» والجيش يتحول إلى امتداد لهيبة القائد لا إلى مؤسسة وطنية ذات عقيدة راسخة. بهذا المعنى، فإن العقل الرعوي لا يصف فقط ثقافة اجتماعية، بل يحدد شكل السلطة، وكيف تُدار، وكيف تنهار. الحرب السودانية الحالية تمثل التجسيد الأكثر دموية لهذه الذهنية. فقد انفجر الصراع بسرعة مذهلة، محولاً الخلافات السياسية إلى مواجهات جهوية وهوياتية، حيث برزت الولاءات الأولية بشكل حاد كما لو أنها تنتظر لحظة الانفجار كي تستعيد حضورها وفي لحظة الانهيار المؤسسي، ظهرت القوة العارية بوصفها المرجعية الوحيدة التي تضبط المجال، وظهرت المليشيات المختلفة بوصفها استمراراً لمنطق «القطيع والراعي» الذي يرفض القانون ويستبدله بالولاء الشخصي وحين يتراجع الضابط المتدرج ليسلم القيادة لرجل متنفذ لا علاقة له بالعقيدة العسكرية، نكون أمام تحول بنيوي لا أمام حادثة عابرة ولأن هذه الحرب كسرت كل اليقينيات القديمة، فقد أعادت طرح الأسئلة بطريقة جديدة. هل هذه الذهنية قدر تاريخي لا فكاك منه، أم أنها مجرد مرحلة في تطور المجتمع يمكن تجاوزها؟ هل نحن أمام تشخيص جراحي لبنية عقلية، أم أننا نجازف بالوقوع في تعميمات تحجب التنوع الهائل في التاريخ الاجتماعي السوداني؟ وهل يمكن الحديث عن «عقل رعوي» واحد بينما تختلف تجارب الأقاليم، وتتباين مسارات التحديث، وتتشابك التقاليد مع الحداثة بطرق معقدة؟ الجواب — في تقديري — أن أطروحة النور حمد تمتلك قوة تفسيرية كبيرة لأنها تضع يدها على جوهر الأزمة: ضعف التعاقد الوطني وانعدام المؤسسية. لكنها تحتاج اليوم إلى توسعة تسمح بإدخال الأبعاد الاقتصادية والسياسية والعالمية التي تسهم في تشكيل الذهنية نفسها فالفقر، والتهميش التاريخي، وانهيار التعليم، كلها عوامل تجعل الرعوية والبطريركية ملاذاً اجتماعياً في مواجهة الدولة الغائبة كما أن العولمة الرقمية أدخلت تعقيداً جديداً، حيث بات من الممكن نشر خطاب رعوي شديد التخلف عبر وسائل حديثة شديدة التطور، الأمر الذي خلق مفارقة عميقة بين الأدوات والوعي ومع ذلك، فإن أهم ما في هذه اللحظة التاريخية ليس إعادة توصيف الذهنية، بل البحث عن الشروط التي يمكن أن تسمح بولادة عقل مدني جديد. هذه الشروط لا يمكن أن تأتي من النخب السياسية التقليدية، لأنها الأكثر ارتباطاً بالبنى القديمة بل من الحركات النسوية والشبابية، ومن المبادرات المدنية التي نشأت في قلب الخراب، ومن شبكات التضامن الأفقي التي تعلمت أن تخلق حياة داخل الفراغ. لقد أثبتت التجربة أن التغيير يبدأ من القاعدة حين تنهار القمة وأن المجتمع — برغم جراحه — لا يزال قادراً على إنتاج أشكال بديلة للتنظيم والعمل وهنا يصبح نقد الذات ضرورة لا ترفاً. ليس جلد الذات الذي يشلّ الإرادة، بل النقد الذي يحول الوعي إلى مشروع فالمعركة الحقيقية ليست بين جيشين، بل بين ذهنيتين: ذهنية الرعوية التي تجر البلاد نحو الهاوية، وذهنية المواطنة التي تحاول أن تنقذ ما تبقى من إمكانية العيش المشترك. وبينهما تظل مسؤولية المثقف مضاعفة- أن يضيء المناطق المعتمة وأن ينقد البنى العميقة لا الأشخاص فقط، وأن يحوّل النقاش العام من ردود أفعال إلى تفكير استراتيجي يفتح أفقاً جديداً للسودان إن السودان اليوم يقف على حافة إعادة تأسيس شاملة، ربما تكون أكثر جذرية من كل ما مرّ به منذ الاستقلال فأما أن نعيد إنتاج الذهنية الرعوية نفسها بشكل أكثر عنفاً وتدميراً، أو نبدأ - ولو خطوة صغيرة - في بناء عقل مدني جديد قائم على المساواة في المواطنة، وسيادة القانون، والتعددية الحقيقية، والعدالة الانتقالية والخيار الثاني لن يتحقق دون جرأة فكرية تعترف بالخلل، وتفككه، وتقترح بديلاً جذرياً يليق ببلد دفع ثمناً باهظاً لغياب التعاقد المدني طوال عقود وبهذا يظل السؤال مفتوحاً: هل ما نعيشه اليوم هو لحظة انهيار كامل، أم بداية لتشكل وعي جديد؟ الإجابة رهن بما سنفعله نحن، لا بما فعلته بنا الحرب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة