الفتنة على الهواء: حين يزرع دعاة اللايف شرخاً أعمق من ركام الحرب كتبه الطيب محمد جادة

الفتنة على الهواء: حين يزرع دعاة اللايف شرخاً أعمق من ركام الحرب كتبه الطيب محمد جادة


12-04-2025, 11:41 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1764891707&rn=0


Post: #1
Title: الفتنة على الهواء: حين يزرع دعاة اللايف شرخاً أعمق من ركام الحرب كتبه الطيب محمد جادة
Author: الطيب محمد جاده
Date: 12-04-2025, 11:41 PM

11:41 PM December, 04 2025

سودانيز اون لاين
الطيب محمد جاده-السودان
مكتبتى
رابط مختصر





صحفي مستقل
في السنوات الأخيرة، تمدّد على المشهد السوداني شكلٌ جديد من التأثير الاجتماعي، يطلّ عبر الشاشات الصغيرة لا عبر المنابر الكبرى. إنّه عالم البثّ الحيّ على المنصّات الرقمية، حيث تحوّل بعض الناشطين أو من يصفون أنفسهم كذلك إلى ما يمكن تسميته “لايفاتية”، أصوات تتدافع بلا ضابط، وتتشابك في فضاء مفتوح يشبه ساحة سوق مضطرب أكثر مما يشبه منبراً عاماً. ورغم أنّ هذه الظاهرة لا تبدو في ظاهرها سوى امتدادٍ لحرية التعبير، إلا أنّها حملت إلى المجتمعات السودانية وجهاً جديداً للانقسام، وأطلقت من داخل البيوت شرارات تُذكّر بأن الحروب لا تُشنّ فقط بالسلاح.
تغلغل هذا النوع من المحتوى في تفاصيل الحياة اليومية، حتى صار جزءاً من الروتين العام. لكن خلف الضجيج والأحاديث السريعة، يتسرّب شكل من “الأدمار الاجتماعي” الدمار البطيء الذي يطحن العلاقات ونُظم القيم من الداخل. فالخطاب الذي يعتمده بعض هؤلاء يتغذّى على الإثارة والاصطفافات، يلوّن الوقائع بما يخدم اللحظة، ويشحذ الغضب الجمعي كما لو كان وقوداً يجذب المشاهدات. وهنا تكمن الخطورة: حين يتحوّل المجتمع نفسه إلى خشبة عرض، وحين تصبح الانقسامات مادة ترفيهية لا نقاشاً مسؤولاً.
في خلفية هذا المشهد المعقّد، يقف الفاقد التربوي كالماء الراكد الذي يسهل على أي لغة حادّة أن تعكّره. كثير من الشباب الذين وجدوا أنفسهم خارج مسار التعليم النظامي أو في بيئات ضعيفة التأهيل صاروا أكثر عرضة للخطابات العدوانية التي تملأ اللايفات. فالمنصّات تخاطبهم بلغتهم السهلة، وتقدّم لهم إحساساً سريعاً بالانتماء، حتى لو كان ذلك الانتماء مبنياً على سوء الفهم أو التحيّز. وبسبب غياب بدائل تعليمية جاذبة أو مساحات نقاشية ذات ضوابط، يجد هؤلاء أنفسهم يلتقطون ما ينثره بعض دعاة الفتنة بكل خفّة، دون قدرة على الفرز أو التحليل.
السودان اليوم يعيش جراح الحرب، لكنّ الأخطر من الحرب نفسها هو ما يزرع في النفوس من عطبٍ طويل الأمد. الحرب تُجبر المجتمعات على إعادة الإعمار المادي، أما الأدمار الاجتماعي الذي ترسّخه هذه الخطابات المتفلّتة، فهو أشبه بتصدّعٍ تحت الأرض يستمر في الاتساع حتى بعد أن تهدأ المدافع. هناك أسر باتت تتنازع بسبب بث مباشر، وقبائل تُشعل حساسياتها القديمة بسبب تعليق متشنّج، وشباب يُعاد تشكيل وعيهم على وقع كلمات تُقال بلا مسؤولية ولا وعي بآثارها المتشابكة.
يقدّم خطاب اللايفاتية صورة مضخّمة عن الواقع، فيتغذّى على اللحظات الفارقة، وينفخ فيها حتى تغدو حدثاً عاماً. وبدلاً من الإسهام في تهدئة النفوس، يلجأ الكثير منهم إلى اللعب على أوتار الانتماء الضيّق، والحديث عن الهويات الإثنية والجهوية كما لو كانت معاقل محاصرة يجب الدفاع عنها. وفي بلد تعدّدي مثل السودان، فإن مثل هذه اللغة تفتح الباب واسعاً أمام إعادة إنتاج أسباب النزاع، وتغلق النافذة أمام بناء الثقة الذي هو أساس أي تعافٍ وطني.
ومع غياب الرقابة الفعّالة على كثير من المنصّات، يصبح الجمهور نفسه خط الدفاع الأخير. غير أن هذا الجمهور مثقل بالقلق والضغوط، يبحث عن معنى أو عزاء سريع وسط الانهيارات المتراكمة. وهنا تتكاثر الفراغات التي يملؤها دعاة التوتّر بخطاباتهم، يميلون فيها إلى تبسيط القضايا أو إعادة ترتيب الحقائق بما يتناسب مع أجنداتهم الخاصة. ومع كل لايف يقدّم رواية منقوصة أو لغة مشحونة، يزداد الشرخ الاجتماعي اتساعاً، وتتراجع قدرة المجتمع على التفاهم.
لكنّ الصورة ليست قاتمة بالكامل. فهناك أيضاً أصوات واعية تُحاول أن تحوّل المنصّات نفسها إلى مساحات للنقاش البنّاء، تُعيد للغة دورها الطبيعي في معالجة الأزمات بدلاً من تأجيجها. وهذه الأصوات تحتاج إلى دعم من مؤسسات المجتمع المدني والإعلام التقليدي، وإلى إشراك التربويين والخبراء في صياغة خطاب بديل قادر على مخاطبة الشباب بلغة العصر دون أن يغرقهم في التشظي.
إن إعادة توجيه المشهد الرقمي في السودان ليست مهمة سهلة، لكنها ليست مستحيلة. تبدأ من الوعي بأن تأثير المنصّات لم يعد ترفاً، وأن البث المباشر صار أحد مصادر تشكيل الرأي العام وشحن المزاج الجمعي. ومن ثمّ، فإن تحصين المجتمع يمر عبر تعزيز الثقافة الرقمية، وإدماج التربية الإعلامية في المدارس، وتمكين الأسر من أدوات فهم ما يتعرّض له أبناؤها. كما يحتاج الأمر إلى جهد جماعي يربط بين الفاعلين: الدولة، والمجتمع المدني، والمحتوى الرصين القادر على المنافسة.
في بلد أنهكته الحرب وأثقلته سنوات من الصراع والاضطراب، يظل الحفاظ على النسيج الاجتماعي ضرورة وجودية. فالدمار الذي تخلّفه القذائف يمكن ترميمه، أما الجروح التي تُصيب النفوس فتتطلب زمناً طويلاً ووعياً عميقاً كي تُشفى. ومن هنا تأتي أهمية مواجهة الأدمار الاجتماعي بكل أشكاله، وفي مقدّمتها ذلك الذي ينفذ من الشاشات، يلوّن الوعي، ويعيد رسم الخرائط داخل البيوت. إن السودان يحتاج إلى أن يستعيد لغته الهادئة، وإلى أن يدفع أصوات التحريض إلى هامشها الطبيعي، كي يجد طريقه نحو التعافي الشامل.
بهذا الفهم، لا تصبح محاربة اللايفاتية الداعية للفتنة معركة ضد حرية التعبير، بل دفاعاً عن حق المجتمع في أن يبني سلامه الداخلي، وفي أن ينجو من حربٍ جديدة تُشنّ بلا ذخائر، لكنها لا تقلّ فتكاً.