من يتابع حال الجامعات السودانية بعد الحرب لا يحتاج لكثير شرح ليدرك حجم الجرح الذي أصاب التعليم العالي في بلادنا. مبانٍ دُمّرت، معامل نهبت، مكتبات أُحرقت أو شُرّدت، وطلاب تقطعت بهم السبل. وفي وسط هذه الفوضى وجد كثير من الأساتذة أنفسهم مضطرين لمغادرة البلاد. بعضهم كان يعمل أصلاً في الخارج قبل الحرب، والبعض الآخر حمل حقيبته بعد أن سقط آخر باب في جامعته أو انقطع آخر مرتب كان يربطه بوظيفته. والسوداني بطبعه لا يهاجر وحده. مسؤولياته تسافر معه: أمه، أبوه، خالاته وعماته، وحتى الجيران الذين يطرقون بابه آخر الشهر. الإنسان عندنا لا يعيش لنفسه فقط، ولذلك يصبح الرجوع لوظيفة ضعيفة الراتب، في جامعة تحتاج سنين من الترميم، أمراً صعباً مهما كانت الرغبة في خدمة البلد. لكن بعد أن هدأت نار الحرب في بعض المناطق وبدأت الجامعات تتلمس طريقها للعودة، ظهر سؤال مهم: كيف يمكن أن يستفيد السودان من أساتذته الموجودين بالخارج دون أن نخسرهم نهائياً؟ وكيف يمكن أن نحافظ على صلتهم بجامعاتهم، وفي الوقت نفسه نساعد المؤسسات التي دمرتها الحرب على النهوض من جديد؟ الفكرة التي أراها واقعية وقابلة للتطبيق، ولا تتطلب معجزات، هي أن تسمح الجامعات السودانية لأساتذتها العاملين بالخارج بالاحتفاظ بوظائفهم، بشرط بسيط ومعقول: مساهمة سنوية رمزية — لنقل في حدود ستة آلاف ريال سعودي"6000 ريال سعودي او ما يعادله" — تُخصص مباشرة لدعم الجامعة التي ينتمون إليها. هذا المبلغ، بالنسبة لمن يعمل في الخارج، ليس ثقيلاً، لكنه يحدث فرقاً حقيقياً إذا التزم به عدد كبير من الأساتذة. وبالمقابل تظل وظيفة الأستاذ محفوظة، ودرجته العلمية كما هي، وإذا قرر العودة يوماً يجد الباب مفتوحاً. ولكي لا تكون العلاقة مجرد مساهمة مالية، يمكن للجامعة أن تطلب من الأستاذ تدريس مقرر واحد عن بُعد كل عام. كثير من المواد النظرية يمكن شرحها عبر الإنترنت، والجامعات حول العالم أصبحت تعتمد على هذا الأسلوب حتى قبل الحروب. وبهذا تبقى صلة الأستاذ بطلابه قائمة، وتستفيد الجامعة من خبرته، ولا يشعر هو بأنه انقطع عن المجال الأكاديمي في بلده. ميزة هذا المقترح أنه لا يقف عند حدود المغتربين فقط. فحين يحتفظ هؤلاء بوظائفهم دون حضور فعلي داخل السودان، تستطيع الجامعات أن تفتح المجال أمام أساتذة شباب للتوظيف بعقود سنوية أو لتقديم مساعدات تدريس، فيملأون الفراغ ويكتسبون خبرة، وفي الوقت نفسه يحافظون على استمرار الدراسة. وهكذا يصبح النظام مرناً: الجامعة تستفيد، والطلاب يستفيدون، والشباب يجدون فرصاً، والمغترب يحافظ على مكانه. ودول كثيرة خرجت من الحروب فعلت شيئاً مشابهاً. في لبنان والعراق وسوريا ورواندا، لعب الأكاديميون في الخارج دوراً أساسياً في استمرار الجامعات، إما عبر التدريس من بعيد أو عبر مساهمات سنوية أو المشاركة في صيانة المعامل والمكتبات. فلماذا لا نستفيد نحن أيضاً من هذه التجارب ما دمنا نواجه تقريباً الظروف نفسها؟ طبعاً لن ينجح أي مقترح دون شفافية وثقة. لذلك من الضروري أن تكون الأموال المساهمة من الأساتذة موجّهة لصندوق واضح ومعلن، تحت إشراف لجان من الجامعة نفسها ومن جهة مستقلة حتى يطمئن الجميع أن الأموال تُصرف في مكانها الصحيح: ترميم القاعات، شراء أجهزة، تحسين الإنترنت، دعم البحث العلمي، أو أي أولوية تتفق عليها الجامعة. في النهاية، لا أحد يطلب من الأساتذة العاملين بالخارج المستحيل، ولا أحد يقلل من حجم المسؤوليات التي يحملونها فوق رؤوسهم. لكن البلد الآن يحتاج كل صوت وكل عقل، ولو كان بعيداً بآلاف الكيلومترات. والمسألة ليست «عودة الآن» ولا «انقطاع كامل»، بل هي صيغة وسط تحفظ ارتباط الأستاذ بوطنه، وتساعد الجامعة على الوقوف، وتمهّد لطريق عودة حقيقية عندما تتحسن الظروف. إذا أردنا فعلاً أن نعيد الجامعات السودانية إلى مكانها الطبيعي، فلابد من حلول جديدة تليق بالمرحلة. وهذا المقترح واحد من تلك الحلول التي يمكن أن تُطبق بهدوء، دون ضجيج، ودون أن نحمّل أحداً فوق طاقته. فقط قليل من التنظيم، قليل من الرغبة، وكثير من الإيمان بأن الجامعة ليست مجرد مبانٍ، بل هي ذاكرة وطن ومستقبله.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة