|
|
دور العتبة العلوية, ومشاريعها, وادارتها, في صناعة الانسان الشيعي كتبه د. محمد أبو النواعير
|
11:14 AM December, 01 2025 سودانيز اون لاين د. محمد أبو النواعير-العراق مكتبتى رابط مختصر
كيف تؤثر مشاريع العتبة العلوية على الوعي الديني والهوية الشيعية . ؟ دراسة قائمة على محاور رئيسية أربعة : الدين, الهوية, الثقافة, والسياسة الرمزية. كان للعتبة العلوية ومالها من رمزية روحية وتاريخية, واحيانا حتى سياسية, دورا مهما في تعميق مركزية شخصية الامام علي في التدين الشيعي, حيث ان عملية التطور التي طالت العتبات المقدسة , ومنها العتبة العلوية المقدسة, قادت إلى حضور الإمام عليه السلام في الوعي الجمعي, باعتبار ان شخصيته التي تأتي من حيث الاهمية والقدسية بعد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم, اضافة لدور الإمام التأريخي الكبير في شتى المجالات العسكرية البطولية, والدينية والفكرية والاقتصادية, واهمها علاقته الاجتماعية الوثيقة بالمجتمع, ومنهجه في محاربة الفقر, واعادة توزيع الثروة بشكل عادل, ساهم كل ذلك في جعل صورته كرمز للعدل والعلم والزهد والشجاعة. لذا كانت العتبة العلوية, بميزة احتواءها على هذه الشخصية العظيمة, سببا في تعزيز العلاقة الروحية بين المؤمنين عموما, وبين عموم زوار المرقد الشريف, عبر الشعائر والزيارات والدعاء والصلاة وممارسة الطقوس الدينية, التي يكون استحضار التأريخ ن خلالها, شرطا اساسيا لنجاحها في مهمتها في بناء الانسان. لقد كان دور العتبة في نشر النتاج الديني المرتبط بشخصية الامام عليه السلام, من خلال عدد من المراكز والمؤسسات التي قامت العتبة بإنشائها, كمركز علوم القرآن, ومركز العقائد, ومركز الشؤون الفكرية والثقافية, ومكتبة الروضة الحيدرية, وغيرها الكثير من المراكز والانشطة والفعاليات, تعد سببا مهما قاد الى نشر وعي فكري وديني مجتمعي واسع, وشكل حلقة وصل ما بين منظومة الفكر الاكاديمي, وبين تأريخ التشيع الماثل في قلب المعادلة الدينية التي كان الامام على رأس هرمها. وبوجود الحوزة الشريفة, والتي كانت ولا زالت تمثل الموئل المعرفي والروحي- الديني- الاخلاقي, والتأريخي للمسلمين عموما, وشيعة ال البيت بوجه خاص, قاد ذلك بالنتيجة الى توحيد الخطاب الشيعي ضمن اطار مؤسسي منضبط في ايقاعه الهادئ, والتصاعدي, والذي يراعي مراتب تطور الوعي الشيعي, بعد مروره بقرون طويلة من المحاربة والتعتيم التهميش, في محاولة للقضاء عليه, أو تمييعه بحسب اهواء السلطات التي مرت على هذا البلد, أو جعله ركنا منسيا, تلفّه اشكال الغبار التأريخي البعيد, وكل ذلك ما كان له ان يكون لولا تظافر جهود العتبة المقدسة مع الحوزة الشريفة, بالتصدي لتحويل الوعي الديني من المعرفة الشفوية, إلى المعرفة المؤسسية المنهجية المنضبطة, والقائمة في (بعض) فعالياتها على بحث علمي ومنهجي, وكفاءة احترافية في تصدير الخطاب الذي يستطيع ان يكون ندا لفوضى الخطاب الذي مثلته مؤسسات نشر التفاهة العالمية في الوعي الانساني بشكل عام, والوعي الاسلامي الشيعي بشكل خاص. لقد كان لاهتمام العتبة بالجنبة الفكرية والعلمية, ومحاولة تصدير الوعي الاسلامي من خلال المؤتمرات والفعاليات الثقافية والدينية, وترجمة المؤلفات والنتاجات العلمية, ومتابعة حراك الوعي المليوني للمؤمنين, والذي قد يتجاوز تعداده مئات الملايين, من خلال المتابعة اعلاميا, والمشاركة فعليا, في مناسبات الزيارات المليونية التي تحصل للعتبات المقدسة, ومنها العتبة العلوية المقدسة, دورا مهما قاد إلى تحقيق حالة حضور تصاعدية للفكر الشيعي انطلق في تمظهراته الاخيرة نحو الانتشار خارج حدود العراق. وتأسيسا على ذلك , كان نشاط ادارة العتبة منصبا وبجهود جبارة من اجل تعزيز حضور الهوية الاسلامية الشيعية من خلال تعزيز حضور الهوية التأريخية, وما تحمله من ثقل في الاحداث والمظالم والانجازات خلال 1400 عام, حيث كانت العتبة إحدى محطات اعادة تمثيل هذا التأريخ, واعادة تشغيل ادوات خطاب التفكيك التاريخي, ومحاولة صنع مناهج تثقيف وتوعية جديدة, تعيد بناء الانسان اخلاقيا وعقائديا وسلوكيا, من خلال استثمار الوجود الرمزي للعتبة العلوية المقدسة, بتمثلها كامتداد لامامة الامام علي, حيث اصبحت كمتلازمة لفكرة أصل التشيع, المنبثقة من شخص الامام نفسه عليه السلام. ومن جانب آخر, عمدت ادارة العتبة, وعبر نشاط خدمي وفكري منهجي رصين, في تصدير هوية اسلام ال البيت عليهم السلام, من خلال خلق اطار هوية اجتماعية اخلاقية دينية محلية (العراق), وانطلقت نحو تحويله الى عملية بناء هوية اجتماعية مشتركة, عبرت الحدود, بفعالياتها الانسانية والثقافية والاغاثية, حيث كانت مشاريع العتبة خارج العراق, كالمواكب الخدمية والاغاثية, مع الفعاليات العلمية والفكرية, ونشر الثقافة الشيعية المسالمة, سببا في خلق وعي شعوري انفعالي , كان كعامل يوحد الشيعة في الكثير من البلدان, كالعراق, ايران, لبنان, الخليج, الهند وباكستان, افريقيا, مما ادى لخلق شبكة هوية عالمية تتجاوز القوميات واللغات والانتماءات. ولا يسعنا ان ننسى, بان حركة العمران الكبيرة التي تقودها العتبة, والتي بدأت تشهد قفزات كبيرة ومتسارعة في ادارتها الحالية, تعد من اهم عوامل تعزيز الهوية الرمزية عند المسلمين الشيعة عموما, حيث ساهمت التوسعات العمرانية في الصحن الشريف, والمراقد, والتوسعة الحاصلة, وبناء التحفة الفنية المعمارية المتمثلة بالصحن الفاطمي, مساهمة فعالة في تبني ذاكرة مكانية قوية في الوعي الشيعي, وهذا ما ساعدها على خلق رموز بصرية تمثل حالة تفاعل وانفعال في الذات الشيعية, وتساهم مساهمة كبيرة في ترصين وتخليق الهوية الشيعية وترسيخها, كرؤية (القبة الذهبية, والعمارة الاسلامية والنجفية, وانواع النقوش الفنية المحترفة, والهندسة العمرانية المتفردة والمختصة بهذه العتبة, والمؤسسات الفكرية والخدمية التابعة لها ,, الخ), كل تلك المعطيات والمؤثرات, ستساهم في اعطاء الشعور بالثبات والاستمرارية التاريخية, بحيث يمكنها من تحصين وتقوية الوعي الشيعي بالضد من عوامل التغيرات السياسية والاجتماعية التي تجري على الامم عادة خلال العصور. لقد مثلت العتبة العلوية, محطة تاريخية مهمة, اجتمعت فيها الكثير من المميزات والإمكانات التي قلما يمكن توافرها في مرفق مؤسسي في كل العالم خلال التاريخ , حيث اجتمعت فيها مميزات عدة في اطار مؤسسي واحد تمثلت بـــ : جنبتها الروحية والاخلاقية والدينية والاجتماعية والعمرانية والتاريخية والاقتصادية, وحضورها كفاعل مهم وضاغط في قضايا المسلمين الشيعة المصيرية, كل هذه المميزات من محاور الحياة المؤثرة, تساهم مجتمعة في اعادة صناعة الانسان, حيث ان الوجود البشري يستند في وجوده وديمومته وتطوره الى هذه المقومات, ودائما ما نجد هذه المقومات موزعة مشتتة مؤسسيا في تشكيلات السياسة والاقتصاد والاجتماع, تخضع لادارات مختلفة, وتتصارعها ظروف ومعوقات شتى, بينما نجد ان العتبة العلوية, قد حباها الله تعالى بانها كانت سلة جمعت كل هذه المحاور, وهو ما يمثل عامل قوة ونفوذ في تركيبتها الذاتية, يمكن استثمارها من قبل ادارة العتبة من اجل صناعة الانسان, واعادة صياغة المجتمعات, خاصة وانها باتت تملك كل مقومات التأثير الاجتماعي. وللميزات المذكورة اعلاه, فقد ساهمت العتبة , وان كان بشكل غير مباشر وغير مرئي حاليا, إلى اعادة صياغة مفهوم السلطة الادارية, الضاغطة والمؤثرة في مجالات شتى في مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية, حيث باتت اليوم تملك تأثيرا رمزيا ساهم باعادة انتاج قوة شيعية ناعمة, لها قوة التأثير على الرأي العام الشيعي في العراق خصوصا , ولدى شيعة العالم عموما, فميزتها الاساسية باعتبارها تمثل مرجعا روحيا رمزيا يحمل رمزية النبي بوجود ابن عمه ووصيه ووج ابنته وخليفته, كعنوان رئيسي, يحرك الذاكرة والوجدان الشيعي, فكانت تمثل بحق, المؤسسة الاعلى للتشيع الاثني عشري, وبشكل عالمي. إن تظافر جهود اكبر مؤسستين في العالم الشيعي , وهما الحوزة العلمية الشريفة في النجف, والعتبة العلوية المقدسة, وما تضمنه هذا التظافر (على صعيد مكاني, وظرفي), من انتاج منظومة قوية وكبيرة, مثلت القلعة الحصينة للاسلام, وتمكنت من السير بدواليب كبيرة لا تتمكن عصى التغريب من ايقافها, مع الميزة الاهم بوجود الحوزة الشريفة اعتباريا ومكانيا, بالقرب من العتبة العلوية المقدسة, مما اضفى عامل حماية وثبات للحوزة, ومصد ضد الهجمات التي تطالها على مر الزمن, من خلال وجود العتبة العلوية والمرقد المقدس, كانت تمثل الانموذج الاقوى والاوضح للحاضنة الشيعية التي لا يمكن النيل منها في الوجدان الشيعي. لذا نجد ان احدى اهم الفعاليات التثقيفية التي ساهمت في زيادة الوعي باهمية العتبة في صناعة الانسان المسلم, هي فعالية الاحتفالات الكبيرة والضخمة التي تقام بمناسبة بلوغ سن التكليف للفتيات, حيث كان لادارة العتبة العلوية المقدسة ورا مهما جدا في اعادة تخليق وعي اجتماعي جمعي, باهمية الحجاب للفتاة المسلمة, وان القيام بهذا التكريم الفخم للفتيات حين بلوغهن سن التكليف, إنما يعني نشر ثقافة تبين خطورة واهمية الحجاب في تركيبة المجتمعات الاسلامية المحافظة, مما يساهم مستقبلا, وبفعل تراكمي تثقيفي مستمر, بخلق حصانة اخلاقية ودينية لبناتنا, ضد موجات التغريب البعيدة عن جوهر ديننا الحنيف. اما الاسلام الشيعي, خارج نطاق الدولة, فلقد كان لنشاطات العتبة المقدسة دورا مهما وكبيرا في تدويل الهوية الشيعية, (وإن كان لا يزال في بداياته العمرية, بعد قرون من المحاربة والتغييب ومحاولة التكتيم), مما ساهم في خلق حالة اعتزاز كبيرة لدى الشيعي في كل مكان, وزاد في تخليق الهوية الشيعية وترسيخها وتقويتها لدى الفرد الشيعي. وقد كانت تمثلات هذه الخطوة ظاهرة من خلال الجهود المبذولة من قبل ادارة العتبة المقدسة في تسهيل تدفق الزوار المسلمين من اكثر من 60 دولة حول العالم, مع صعوبة هذه المهمة, والتي تتطلب إمكانات كبيرة جدا, حيث بات طبيعيا مشاهدة زوار من دول : ايران, لبنان, باكستان, الهند, افغانستان, الشيعة الافارقة (نيجيريا, تنزانيا, غانا), عرب الخليج, الاوربيين والامريكيين الشيعة, حيث تم خلق هوية جماعية عابرة للدول من خلال الاستناد إلى : الشعائر, الزيارة, رمزية الإمام علي ع, توفير الخدمات وكل اشكال الدعم والتسهيلات, مما جعل التشيع يتحول إلى شبكة عالمية من اماكن وزيارات وشعائر, مدمجة معها, عمليات توعية وتذكير تاريخي ووعظ اخلاقي, وترسيخ للمفاهيم الروحية التاريخية, واشتغال علمي منهجي, وخلق حيز ترابط اخلاقي اجتماعي, كل ذلك وبالاستمرار, ساهم باعادة تخليق هوية اسلامية شيعية جامعة وكبيرة, كانت العتبة المقدسة احدى اهم محطات انطلاقها. وعلى الرغم من وجود الكثير من العوامل التي ساهمت, وتساهم بتطور تصاعدي, في اعادة صياغة شخصية الفرد الشيعي, إلا ان تنشيط العامل الاقتصادي, والكفاءة في ادارة هذا الملف, كان له دور مهم في تدعيم الوضع الشيعي عموما, مما جعله عاملا مهما في تدعيم عملية صناعة الذات الشيعية المقتدرة. فقد كان لدور العتبة العلوية المقدسة في الازدهار الاقتصادي جليا, من خلال اهتمامها بالعنصر البشري والسعي الى تنميته اقتصادياً من خلال تنمية جانب السياحة التي تلعب دورا كبيرا في تزويد البلد بأنواع العملات النقدية الصعبة من خلال قدوم الزائرين الذين يمثلون جنسيات متنوعة الى المعالم الإسلامية المقدسة الأمر الذي يساعد في تنشيط الحركة التجارية للبلاد من البيع والشراء ونحو ذلك سواء على مستوى الفرد أو المؤسسات أو الدولة, خاصة وان قدوم السياح الزائرين الى العتبات المقدسة في العراق وبالعدد الهائل سنويا، سيستدعي توفير المسكن والمطعم وهو ما يتطلب بناء الفنادق والمرافق السياحية القادرة على إستيعاب هذا العدد في كل موسم، وهو ما يعني اتساع رقعة العمران والبناء في المدن المقدسة وتحريك رؤوس الأموال على مستوى القطاعين الخاص والعام وهو ما سيساعد في النمو الإقتصادي لعموم البلاد. لا نبالغ في لقول, بان العتبة العلوية المقدسة وادارتها, تملك من الخصائص والمميزات, التي تؤهلها لان تكون اهم العناصر الفاعلة جدا , في صناعة الانسان, بالصيغة التي رسمها الاسلام, ورسمها النبي وآله, في مشروعهم الالهي السماوي, الذي يسعى لنشر الفضيلة, والحفاظ على الأسس السليمة, لمجتمع متعافي اخلاقيا ونفسيا. د. محمد أبو النواعير دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الامريكية المعاصرة في السياسة.
|
|

|
|
|
|