تُعَدُّ أحداثُ مايو ١٩٦٩م ويوليو ١٩٧١م من أعقد المراحل في التاريخِ السياسيِّ السوداني، ليس فقط لطبيعةِ التحوُّلِ العسكريِّ الذي أحدثتاه، بل لما ترتّب عليهما من انقسامٍ فكريٍّ وحزبيٍّ داخلَ النُّخبِ الحديثة، ولا سيّما داخلَ التيّار اليساري. وقد ساهم الصراعُ بين القيادةِ السياسيةِ للحزب الشيوعي والسلطةِ العسكرية في إنتاج رواياتٍ متعارضةٍ حول طبيعةِ الدور الذي أدّاه عبدُ الخالق محجوب، وكذلك الدورُ الذي لعبه المقدَّم عبدُ المُنعِم أبو شيبة. وتمثّلُ هذه الدراسة محاولةً لإعادةِ قراءةِ الحدثَيْن على ضوء شهاداتٍ تاريخيةٍ مختلفة، مع تحليلِ التركيبةِ الجهوية للانقلاب، التي أثارت جدلًا واسعًا حول ما إذا كان انقلابُ يوليو انقلابًا عقائديًّا صرفًا أم ذا طابعٍ جهويٍّ مركزيٍّ واضح. أوّلًا: عبدُ الخالق محجوب ودورُه في انقلابِ مايو ١٩٦٩م تذهب رواياتٌ عديدةٌ إلى أنّ عبدَ الخالق محجوب لم يكنْ بعيدًا عن التخطيطِ لانقلابِ ٢٥ مايو، بل كان — في حقيقة الأمر — العقلَ السياسيَّ المُوجِّه للحركة (1). وتستندُ هذه الرواياتُ إلى عدة مؤشراتٍ واضحة: ١. صِلَتُه المباشرة بالضباط كان عبدُ الخالق — وفق شهادات محمد إبراهيم نُقْد — هو صاحبَ القناةِ المركزية التي تربط قيادةَ الحزب بالضباط الذين شكّلوا العمودَ الفِقريَّ للحركة (1). ٢. حضورُه ليلةَ الانقلاب تؤكّد مذكّرات محمد محجوب عثمان أنّ عبدَ الخالق كان موجودًا في منطقةِ “خور عمر” العسكرية في تلك الليلة، وهو موقعٌ قريبٌ من تجمعات الضباط (2)، الأمرُ الذي يُعدُّ مؤشرًا قويًّا على العلمِ المسبق والمشاركةِ الفعلية. ٣. صياغةُ البرنامج السياسي يذكر عددٌ من الباحثين أنّ عبدَ الخالق هو الذي وضعَ الإطارَ السياسيَّ الأوّليَّ لمايو — بوصفها “ثورةً وطنيةً ديمقراطية” — قبل أن ينقلبَ عليها نميري لاحقًا (9). ٤. الرابطُ مع جعفر نميري تشير رواياتٌ موثّقة إلى أنّ محمدَ إبراهيم نُقْد قامَ بربط نميري بعبد الخالق قبل أسابيعَ من الانقلاب، وهو ما منحَ الحركةَ شرعيةً مدنيةً مؤثرة (1). وبذلك يتّضح أنّ تصويرَ عبد الخالق كأنّه كان “خارجَ المشهد” إنما جاء لاحقًا لأسبابٍ سياسيةٍ بعد صدام الحزب مع مايو. ثانيًا: العلاقةُ البنيوية بين عبدِ الخالق وأبي شيبة لم يكن عبدُ المُنعِم أبو شيبة — قائدُ الحرسِ الجمهوري — عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، غير أنّ دوره التنظيميَّ والعسكريَّ كان وثيقًا بالخطّ السياسي لعبد الخالق. ١. الإيواءُ والحماية تشير رواياتُ الحرس الجمهوري إلى أنّ أبا شيبة قام بإيواءِ عبدِ الخالق داخل الحرس الجمهوري بعد الخلاف مع مايو، وهو ما يدلّ على درجةٍ عاليةٍ من الثقة بينهما (3). ٢. العلاقةُ القتالية–السياسية لم تكن العلاقة علاقةَ حزبيةٍ فقط، بل كانت علاقةً “مصلحةٍ سياسية–عسكرية” تقوم على أن عبد الخالق يوفّر الفكرة، بينما يضمن أبو شيبة التنفيذ (4). ٣. النفوذُ داخل الجيش يُجمعُ كثيرٌ من الشهودِ على أنَّ أبا شيبة كان — بحُكم موقعه — أكثرَ الضباط قدرةً على تنفيذ انقلابٍ في قلب السلطة (8). كلّ ذلك يؤكّد أنَّ أبا شيبة كان الذراعَ العسكريةَ لعبد الخالق في حركة يوليو. ثالثًا: انقلابُ يوليو ١٩٧١م بين العقائديّة والجهويّة يُقدّم كثيرٌ من اليساريين روايةً تفيد بأنّ انقلاب يوليو كان “عودةً للخطِّ الثوري” داخل الحزب الشيوعي. غير أنّ تحليلَ تركيبةِ قيادة الانقلاب يكشف بعدًا آخرَ لا يمكن تجاهلُه: هو البُعدُ الجهوي–المركزي. ١. الانتماء النيلي–الوسطي للقيادات ينحدر غالبُ قادةِ الانقلاب من الإقليم النيلي–الوسطي، وعلى رأسهم:
هاشم العطا — الخرطوم عبد المنعم أبو شيبة — /أم درمان فاروق حمد الله — الشمالية بابكر النور — أم درمان معاوية عبد الحي — أم درمان وهذا الانتماء يُعدُّ — في تفسير عددٍ من الباحثين — جزءًا من سيطرة نُخَب المركز على مؤسسات الدولة، بما في ذلك الكلية الحربية (6)(7). ٢. غيابُ تمثيل الأقاليم الطرفية لم تضمّ قيادةُ الانقلاب ضباطًا من الغرب أو الشرق أو الجنوب في مواقع القرار، مما يعزّز فكرة الطابع “النيلي–المركزي” للحركة (10). ٣. الجهويّة هنا ليست قبلية لا يعني الوضع أنّ الانقلاب كان “تحالفًا قبليًا”، بل يُشبه ما يصفه علماء الاجتماع بـ جهويّة النُّخَب الحديثة، أي سيطرة مركز الخرطوم وما حوله على مفاصل الدولة (11). ٤. صراعٌ داخل المركز نفسه لا يدلّ هذا الانتماء إلى أنّه صراعٌ بين المركز والهامش، بل يدلّ على أنّه صراعٌ بين نخب المركز نفسِه كما يؤكّد عبد الله علي إبراهيم (11). وبذلك يمكن القول: كان انقلابُ يوليو انقلابًا ذا طابعٍ جهويٍّ مركزيٍّ، نفّذتْه نُخَبٌ تنتمي إلى الإقليم النيلي–الوسطي، لا حركةً قوميةً واسعةً. وكذلك كان انقلاب يونيو الذى هو نسخة معدلة من انقلاب يوليو مع فارق الغلاف الايدولوجى رابعًا: عبدُ الخالق ودورُه في إدارة انقلاب يوليو تشير الشهاداتُ المتعددة إلى أنّ عبد الخالق لعب في انقلاب يوليو الدور السياسي نفسه الذي لعبه في مايو: صاغ الخطّةَ السياسية (9). كان على اتصالٍ بالضباط منذ ما قبل الحركة (1). خرج من مخبئه بمجرد بدء التنفيذ (3). وُضع على رأس قائمة الاتهام لأسبابٍ يعرفها الضباط أنفسُهم (5). هذا الدور يجعل من الخطأ القول إنّ عبد الخالق “تفاجأ” بالحركة أو أنّه “لم يشارك”. بل تؤكّد الشهاداتُ أنّه كان المدير السياسي للانقلاب. خامسًا: أبو شيبة القائدُ العسكريُّ الفعلي ليوم ١٩ يوليو يتفق معظمُ الشهود على أنّ نجاحَ الانقلاب في ساعاته الأولى يعود إلى: سيطرة أبي شيبة على القصر الجمهوري (4). قبضتِه على نميري ووحدات الحرس. قدرته على فرض الانضباط داخل العاصمة. صِلَته المباشرة بقيادات الحركة. ويصف نميري، في مذكّراته، أبا شيبة بأنّه “أخطرُ الضباط المشاركين” (8)، وهو اعترافٌ ضمنيٌّ بقوة دوره العسكرية. خاتمة تُظهر القراءةُ التحليلية لانقلابي مايو ويوليو أنّ: ١. عبدَ الخالق محجوب لم يكنْ خارج الحدث، بل كان المهندسَ السياسيَّ للحركتين. ٢. عبدُ المُنعِم أبو شيبة كان الضابطَ القائدَ الذي اعتمد عليه عبد الخالق في تنفيذ انقلاب يوليو. ٣. تركيبةُ الانقلاب تُشير بوضوحٍ إلى أنّه انقلابٌ جهويٌّ مركزيّ، نفّذته نُخَبُ الإقليم النيلي، لا انقلابًا قوميًّا شاملًا. ٤. كان الصراعُ في جوهره صراعًا داخلَ المركز السياسي السوداني لا صراعًا بين المركز والهامش. إنّ هذه القراءة الموسّعة تُعيدُ الحدثَ إلى سياقِه الصحيح، بعيدًا عن التبريرات الحزبية أو الروايات الرسمية، ليتجلّى انقلابُ يوليو كحدثٍ مركزيٍّ في تاريخ الصراع بين النخبة المدنية والعسكرية في السودان. الهوامش (1) شهادة محمد إبراهيم نُقْد حول صلة عبد الخالق بالضباط، في: عبد الله آدم حمد، الحزب الشيوعي السوداني: تاريخ من الصراع، الخرطوم، 2005. (2) محمد محجوب عثمان، ثورة مايو واليسار السوداني، الخرطوم، 2004. (3) سر الختم الخليفة، ذكريات ومواقف، الخرطوم، 1998. (4) أحمد عبد الله آدم، الجيش والسياسة في السودان، مركز الدراسات السودانية، 2007. (5) وثائق محاكمات 1971 – التلفزيون السوداني (1985–1988). (6) محمد جلال هاشم، السودان: الوعي بالهامش، مركز الدراسات السودانية، 2009. (7) المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، القوات المسلحة السودانية: تاريخها وتركيبتها، لندن، 1992. (8) جعفر نميري، النهج الإسلامي، الخرطوم، 1994. (9) محمد سعيد القدّال، تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، دار الجيل، بيروت، 1993. (10) يوسف فضل حسن، تاريخ السودان الحديث، جامعة الخرطوم، 1998. (11) عبد الله علي إبراهيم، الثورة والدولة في السودان، دار الفكر، 2003. (12) يوسف الشريف، السودان وأهل السودان، لندن، 1997.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
الأمين مصطفى
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست