قبل انفصال أو استقلال الجنوب، كنتُ واحدًا من ثلاثة كُلِّفنا من قبل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) لوضع استراتيجية زراعية لإقليم الاستوائية الكبرى (Greater Equatoria). كانت تلك مرحلة دقيقة في تاريخ الجنوب، وكل جملة كانت تُكتب في تلك الفترة كانت تحمل وزن دولة تتشكل.
في أثناء عملنا، كانت المسودة النهائية لقانون الأرض — التي صاغها خبراء الوكالة — جاهزة للمراجعة. قرأتُها بعمق، مادةً مادة، لا بصفتي خبيرًا زراعيًا فحسب، بل بصفتي سودانيًا يعرف معنى أن تكون الأرض أساس الاستقرار أو أساس الانهيار.
وما طمأنني حقًا هو أن القانون ارتكز على قاعدة عادلة وواضحة:
كل جنوبي له حق أصيل في الأرض حسب تاريخ المنشأ والولادة والانتماء للمجتمع المحلي.
لا تمييز، لا تمكين، لا غنائم سياسية، ولا استيلاء باسم السلطة.
وجود هذا القانون — حتى قبل التطبيق الكامل — كان عامل حماية لجنوب السودان.
وجوده ذاته كان يضع حاجزًا أخلاقيًا وقانونيًا أمام أي محاولة مستقبلية لتحويل الأرض إلى أداة للنفوذ أو التمكين، كما حدث ويحدث في الشمال.(كسرة: يقال ان ثلث اراضي السودان تم تسجيلها للكيزان خلال فترة انقلاب الانقاذ 😞)
لكن عندما أنظر اليوم إلى السودان الشمالي (ما تبقّى من السودان بعد انفصال الجنوب) أرى الصورة المقلوبة تمامًا:
بلدٌ بلا قانون أراضٍ موحَّد، ولا إطار محترم لتنظيم الحقوق.
بلدٌ تحكمه الولاءات السياسية والدينية، لا المواطنة.
وأرضٌ تُستباح بالانتماء للكيزان، أو بالاصطفاف مع البرهان، أو ببركات بعض الدوائر في الحكومة المصرية.
يكفي أن تكون من «الجماعة» حتى تُفتح لك الأراضي،
وكأن السودان أصبح ملكًا شخصيًا لمن يملك السلاح أو القرار،
وليس وطنًا لملايين ينتظرون حدًا أدنى من العدالة.
هذا الفرق — بين وجود قانون يحمي الجنوب سوداني ، وغياب قانون يحمي الشمال سوداني — هو الفرق بين فكرة الدولة وفكرة الغنيمة.
ولذلك، أقولها بوضوح لا لبس فيه:
لن ينهض السودان — ولن يقوم له عمود دولة — قبل القضاء التام على الحركة الإسلامية وتمكينها، ووضع قانون أراضٍي عادل وواضح يشبه في روحه ذلك القانون الذي راجعته في جنوب السودان.
ومع تطور الأوضاع العسكرية والسياسية الحالية نسمع كثيرًا من قصص «الاستيلاء على الأراضي».
وأرجو — بل أتمنى — أن تكون هذه القصص من نسج المرضى والحاقدين، لا من الواقع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة