ليس هناك ما يكشف حجم الانفصال بين السلطة والناس أكثر من إقامة تمثال ضخم لعبد الفتاح البرهان وهو يعانق نازحة من دارفور، بينما البلاد تعيش أكبر كارثة إنسانية منذ تأسيسها. السودان اليوم لا يحتاج إلى مجسمات ولا إلى صور مصنوعة بعناية، بل يحتاج إلى دولة توقف نزيف الحرب، وإلى مسؤول يفهم أن الشعب لا يمكن أن يكون خلفية جمالية لمشهد دعائي.
في الوقت الذي يموت فيه الأطفال جوعاً في معسكرات النزوح، وتتعرض النساء للعنف في دارفور والجزيرة، وتتكدس الجثث في شوارع الفاشر، وتنهار مدن بأكملها تحت القصف والجوع يأتي هذا التمثال كصفعة على وجه كل سوداني. كيف يمكن لقائد عسكري يشرف على حرب مدمرة أن يظهر كـ"منقذ" في لحظة يغرق فيها السودان في دمائه؟ كيف يعانق ضحية نزوح بينما هو نفسه لم يستطع منع النزوح، ولا وقف الانهيار، ولا حماية المدنيين؟ المشهد يكشف محاولة فجة لتجميل الفشل. التمثال لا يمثل تعاطفاً، بل يعكس رغبة في إعادة هندسة صورة القائد خارج سياق الهزائم المتتالية. إنها محاولة لإقناع الناس بأن المسؤول عن المأساة هو أيضاً من يحمل مفاتيح النجاة، في مفارقة أخلاقية وسياسية لا يمكن ابتلاعها. النازحة التي اختيرت لتكون جزءاً من espetáculo العلاقات العامة ليست رمزاً في مسرح السلطة. هي امرأة فقدت بيتها وربما عائلتها، وتشردت تحت ضغط العنف والجوع. تحويلها إلى عنصر دعائي يمس كرامتها ويختزل مصيبتها في لقطة معدّة مسبقاً، تخدم سردية سياسية لا علاقة لها بواقع الناس. أما الشهداء — سواء من المدنيين أو من أفراد الجيش — فالمشهد يمثل إهانة مضاعفة لهم. كيف يُصنع تمثال لقائد بينما آلاف الذين ماتوا تحت قيادته لا يملكون قبراً لائقاً أو محاكمة عادلة تكشف كيف ماتوا؟ أي منطق يُجمّل القائد وينسى من دفعوا الثمن الحقيقي؟ في دولة تحترم نفسها، تُشيَّد التماثيل بعد تحقيق السلام والعدالة، لا وسط الدمار.
ما وراء هذا التمثال ليس حباً في الفن ولا احتفالاً بالإنسانية. ما وراءه محاولة لتغطية الخسائر العسكرية والسياسية، ولإنتاج صورة جديدة لقائد مهزوم يحاول استعادة شرعيته عبر المشهد لا عبر الفعل. إنها سياسة قائمة على التضليل البصري- صورة ناعمة أمام كاميرا واحدة، تخفي وراءها الخراب الممتد من دارفور إلى الوسط إلى الشرق. لكن كما سقطت تماثيل الطغاة عبر التاريخ، فإن هذا التمثال أيضاً لن يكون استثناء. فهو يحمل في ملامحه كل عناصر نهايات الأنظمة المنفصلة عن شعوبها- الاحتفال وسط الخراب، التجميل وسط الدمار، والبحث عن مجد شخصي وسط الانهيار العام. سيأتي اليوم الذي يصبح فيه هذا التمثال رمزاً للسقوط، لا للصمود؛ شهادة على لحظة انحطاط، لا علامة قوة.
السودانيون لن ينسوا أن هذا التمثال ظهر في زمن كانت فيه المدن تُحرق، والناس ينزحون، والأطفال يموتون بلا دواء، والبلد يتفكك قطعة قطعة. ولن ينسوا أن السلطة اختارت أن تردّ على المأساة بصورة، لا بخطة. وعلى الجوع بمجسم، لا بغذاء. وعلى الحرب بديكور، لا بسلام. إن التمثال ليس علامة شجاعة ولا رمزاً إنسانياً؛ إنه إعلان صريح بأن السلطة فقدت القدرة على قراءة الواقع، وأنها تحاول بناء شرعية من الرخام بعدما فقدتها في الميدان. وفي بلد ما زال شعبه يقاوم رغم الجوع والحرب، مثل هذه الرموز لا تعيش طويلاً. ما يبقى هو الحقيقة السودان بحاجة إلى قائد يعيد بناء الدولة، لا إلى قائد ينحت صورته.
*وهذه الحقيقة، مهما حاولت السلطة دفنها تحت التماثيل، ستظل أقوى من أي حجر.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة