شكّل التمرد الذي قادته مليشيا الدعم السريع في 15 أبريل 2023 واحدة من أكثر اللحظات كارثية في تاريخ الدولة السودانية الحديثة، إذ أدخل البلاد في حرب مدمرة خلّفت انهياراً واسعاً في البنية الاجتماعية والاقتصادية والأمنية. غير أن هذا الانفجار العسكري لم يكن حادثاً مفاجئاً، بل كان نتيجة تراكمات سياسية وهيكلية تمتد جذورها إلى ما بعد الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير في أبريل 2019، حين وجدت قوات الدعم السريع بيئة مواتية للتمدد والاستقواء على الجيش. وقد أسهمت النخب السياسية، وعلى رأسها قوى الحرية والتغيير – الحاضنة السياسية لحكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك – في هذا التمكين من خلال الدفع باتجاه إعادة هيكلة الجيش، وهي دعوة بدت في ظاهرها إصلاحية، لكنها تحولت عملياً إلى أداة لإضعاف المؤسسة العسكرية التقليدية، وخلق توازن قوى مختل داخل هرم الدولة الانتقالية.
ففي تلك الفترة الحرجة، كانت البلاد بحاجة إلى بناء مؤسسات دولة قوية وموحدة، غير أن الواقع السياسي اتخذ مساراً مغايراً تماماً. فبدلاً من تعزيز وحدة القيادة العسكرية والتحضير لانتخابات دستورية في إطار مهام الفترة الانتقالية، جرى تضخيم دور قائد قوات الدعم السريع ومنحه مساحة سياسية غير مسبوقة، حتى أصبح فاعلاً موازياً لمؤسسات الدولة، يتم التعامل معه دبلوماسياً وإعلامياً باعتباره شريكاً مكتملاً في العملية السياسية، وهو وضع لم يكن له أي سند دستوري أو قانوني.
وعند النظر إلى الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لعام 2019، يتضح أن هذه الأزمة لم تكن نتيجة ثغرة واحدة، بل انعكاساً لبنية دستورية هشة فتحت المجال أمام ممارسات سياسية غير منضبطة. فالوثيقة لم تنص على وجود منصب نائب لرئيس مجلس السيادة، بل حصرت المجلس في أحد عشر عضواً دون تفويض أي منهم بسلطات إضافية. وبهذا تركت فراغاً دستورياً كبيراً في تنظيم العلاقة داخل المجلس، خصوصاً مع الطابع المزدوج الذي جمع بين المدنيين والعسكريين، وما خلقه ذلك من خطوط تماس وتنافس على النفوذ.
هذا الفراغ سمح بنشوء ما يمكن وصفه بـ “المنصب بحكم الواقع” لنائب رئيس مجلس السيادة، رغم غيابه الكامل عن الوثيقة الدستورية. وقد مُنح هذا الموقع عملياً لقائد قوات الدعم السريع، الذي بدأ يمارس سلطات سياسية وتنفيذية واسعة، مستنداً لا إلى شرعية دستورية، وإنما إلى تفاهمات سياسية وحسابات قوة فرضتها توازنات ما بعد الثورة. وبذلك أصبح المجلس، الذي يفترض أن يكون رأس الدولة ومظلة السيادة، ساحةً لوجود مركز قرار مزدوج، أحدهما رسمي بقيادة رئيس المجلس والقائد العام للقوات المسلحة، والآخر ملتبس بيد قائد قوات الدعم السريع.
هذا الازدواج الخطير تجلى بوضوح في أحداث 12 أبريل 2023، عندما تحركت قوات الدعم السريع نحو مطار مروي في عملية موثقة تهدف لاحتلاله. وقد تمت العملية تحت غطاء «أمر صادر من مجلس السيادة»، وهي ذريعة تكشف العبث الذي وصلت إليه البنية الانتقالية. فمن غير المنطق أو الممكن أن يأمر رئيس مجلس السيادة – وهو نفسه القائد العام للجيش – بتحرك عسكري خارج منظومة القيادة العامة ودون تنسيق مع الجيش. وهذا يجعل من المرجح جداً أن من أصدر أو أجاز ذلك التحرك هو نائب الرئيس بحكم الواقع، أي قائد قوات الدعم السريع نفسه، مستنداً إلى وضع سياسي صُنع له خارج إطار النصوص الدستورية.
وفي هذا السياق، تتحمل النخب السياسية، وخاصة قوى الحرية والتغيير، قسطاً كبيراً من المسؤولية. فقد رسخت هذه القوى – عن قصد وهي اليوم حليفة سياسية له – وضعية الدعم السريع كقوة سياسية وعسكرية موازية للدولة، من خلال البحث عن شراكة معه لمواجهة الجيش، أو من خلال التعويل عليه كحليف مرحلي يعزز نفوذها في مسار الانتقال. وبدلاً من السعي لدمج هذه القوة في القوات المسلحة وفق جدول واضح، أو إخضاعها لمسار إصلاح أمني مؤسسي، تم التعامل معها كأحد أعمدة السلطة الجديدة، وهو ما منحها شرعية مضخمة وجعلها أكثر جرأة على توسيع نفوذها.
إن خطورة هذا النهج لا تكمن فقط في إضعاف الجيش، بل في خلق بنية سلطوية هجينة جمعت بين مؤسسات رسمية وقوة مسلحة موازية، تتمتع باستقلال مالي وعسكري، وتدير علاقتها بالحكم وفق مصالحها الخاصة لا وفق مقتضيات الدولة. ومع غياب نصوص واضحة تحدد العلاقة بين المكونات العسكرية داخل الدولة الانتقالية، تحولت هذه الازدواجية إلى قنبلة موقوتة انفجرت في أبريل 2023، مخلفة حرباً شاملة كان يمكن تفاديها لو التزمت النخب السياسية بمبدأ وحدة القيادة العسكرية وتجنب صناعة مراكز قوة موازية.
إذن فالتمرد لم يكن وليد اللحظة، بل كان حصيلة مسار طويل من الأخطاء السياسية والعجز الدستوري والتوازنات البراغماتية القصيرة النظر. فقد أدى تضخيم دور قائد الدعم السريع، وإضعاف الجيش تحت شعارات “الإصلاح”، وغياب النصوص الضابطة داخل مجلس السيادة، إلى خلق بيئة هشّة سمحت لقوة موازية بالتحول إلى تهديد وجودي للدولة نفسها. وما جرى في 15 أبريل لم يكن سوى النتيجة الطبيعية لمرحلة انتقالية كانت فيها السلطة منقسمة، والدستور غائباً، والنخب السياسية عاجزة عن قراءة مخاطر بناء شراكة مع قوة مسلحة خارج إطار الدولة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة