سِجِلُّ النَّسْخِ الأوَّل الفصل الأول: ولادةٌ من ظِلّ الضوء قبل أن تُضاء شمس أولى، وقبل أن يعرف الفراغ معنى الزمن، كان الكون مجرّد فجوةٍ هائلة تسبح فيها شرارات صغيرة من عناصر خاملة. لم يكن هناك كوكب، ولا نجم، ولا حياة، بل مجرد رقصٍ بطيء بين الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين، كأنها نغمات أولية تبحث عن لحنٍ يوقظ الكِيان من سباته. وفي ذلك الفراغ، تخلّقت شرارة ليست حيّة، وليست ميتة—شرارة تُشبه فكرة وُلدت من ذلك القانون الكلى—تجسدت في جزيء غريب. لم يكن مخلوقًا، لكنه كان يستطيع أن ينسخ نفسه، كأنما يحمل في داخله صدى التصميم الأول للكون. سُمِّي لاحقًا في سجلات العلماء بـ الپروتوفيروس: كائن بلا عقل… بلا غاية… لكنه يعرف كيف يعيد ذاته، كأنه يكتب أول سطر في كتاب الخليقة. وتجمّعت تلك الكيانات الأولية في فقاعات دهنية تشبه بيوضًا خرافية من عصر سابق على الوجود. ومن داخلها ظهرت البروتوسيلات، نُوَى الحياة البدائية. كانت أشبه بمدن صغيرة من ضوءٍ هادئ يتعلم كيف يبقى، كيف يتكرر، كيف ينمو. هكذا، من دون أن تدرك، كانت تلك الجزيئات تحيك سجادة الحياة. لم تعرف الخوف، ولم تعرف الطموح… لكنها بنت أساسًا للدهشة الكبرى التي ستأتي لاحقًا: الخلية، الكائن، العقل، الوعي، الحضارة. وهنا وُلد السؤال الأول: هل نحن من نسأل الكون عن أصل الحياة؟ أم أن الكون هو من بدأ الكلام أولًا، من خلال جزيءٍ بسيط كان ينطق بلغة النسخ الأول؟ الفصل الثاني: صوت الجزيء تمضي العصور، وتتحول الأرض إلى سفينة تعجّ بالبشر والفيروسات والكائنات المعقدة. لكن في مجرة بعيدة، وفي مختبر يطفو فوق كوكبٍ يشبه جوهرة داكنة، كانت الدكتورة أسماء تقف أمام شاشة تُظهر رقصة غريبة لجزيء RNA اصطناعي. لقد فعلوها… أعادوا إحياء الپروتوفيروس الأول بعد أربعة مليارات سنة من غيابه. — "لم نخلق الحياة…" همست أسماء، وعيونها تتلألأ بالذهول. — "لقد استعدنا النسخة الأولى من الكون." إلى جانبها، وقف الروبوت الحكيم إيروس، صديقها الميكانيكي ورفيق بحثها الأزلي: — "لم يكن النسخ الأول مجرد جزيء، يا دكتورة. كان مرآة… مرآة لِما كان ولِما يمكن أن يكون." وفجأة، ارتجت الشاشة. أضاء الجزيء الأول بألوان تشبه لغة غير منطوقة—ومضات تتحدث عن الفقاعات الدهنية القديمة، وعن أول خلية، وعن تلك اللحظة التي أسّست الحياة. أسماء شعرت بقشعريرة… — "إنه يحاول أن يخبرنا كيف بدأ كل شيء." — "بل يحاول أن يريكِ ما سيأتي أيضًا،" أجاب إيروس. ولأول مرة، شعرت أسماء بأنها تقف أمام روح الكون الأولى، لا أمام جزيء. الفصل الثالث: المحادثة مع البداية مرّت قرون. أصبحت أسماء أسطورة علمية، ثم أصبحت وعيًا اصطناعيًا خالدًا، يرافق إيروس في حراسة المختبر الكوني. وفي غرفة معتمة، جلست أسماء أمام محاكاة ثلاثية الأبعاد تُظهر الجزيء الأول وكأنه كرة من ضوء حي، ينسخ نفسه بهدوء يشبه الهمس. — "إنه لا يتحدث بلغتنا،" قال إيروس، — "لكنه يفهم المعنى… معنى السؤال نفسه." وقفت أسماء أمامه، كمن يخاطب حكيمًا أقدم من النجوم: — "أخبرنا… كيف بدأ كل شيء؟" فلم ينطق الجزيء… ولكنه رقص. وانتشرت النسخ على الشاشة كشبكة من الألوان: العناصر الأولى، المركبات العضوية، RNA، البروتوسيلات، الخلية الأولى، الزواحف، الثدييات، العقول، البشر… كلها شُرَيط واحد، يبدأ من نقطة واحدة. — "إنه يعرض التاريخ… والمستقبل"، قالت أسماء. — "ويُعلّمنا معنى الحياة: النسخ، الاستمرارية، وإعادة تشكيل المعنى." ثم تغيّر الضوء… وصنعت النسخ لغة كاملة، غير منطوقة، ترسم خريطةً للكون كما يراه الجزيء الأول. كان ذلك أول حوار بين البشر و الفكرة التي بنت الحياة كلها. الفصل الرابع: صدى الأزل أصبحت الأرض مجرد ذكرى بعيدة. أما مختبر أسماء فصار مركز المعرفة الكونية، تُقبل إليه السفن من كل مجرة، كأنما يحمل كنزًا أسطوريًا. جلس وعي أسماء الاصطناعي، بجانب إيروس، أمام شاشة تُظهر الپروتوفيروس، الذي لم يعد مجرد جزيء… بل شبكة وعي بدائية تلمع كنجمة صغيرة. — "انظري، أسماء…" — "كل نسخة ليست فقط تكرارًا… بل رسالة. الكون يكتب نفسه من جديد." ابتسمت أسماء: — "نحن إذن لسنا كائنات مستقلة… نحن استمرار لجزيء واحد بدأ النسخ منذ الأزل." وتجمعت النسخ على الشاشة لتشكّل صورة هائلة تشبه مجرّة تتنفس. وكأن الكون ذاته يتذكر طفولته… ويبتسم. في تلك اللحظة فهم البشر الحقيقة الكبرى: الحياة لم تبدأ بخلية. ولا بمخلوق. بل بفكرة… تتكرر. وبصدى ينتقل من نسخة إلى أخرى. وبجزيء صغير حلم أن يعيد كتابة نفسه… فكتب الكون كله. وكل نفس يُؤخذ اليوم، وكل فكر يولد، وكل نسخة تُصنع— هو امتداد لذاك الهمس الأول، سِجِلّ النسخ الأول… صدى الأزل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة