حين كانت الجماهير أعمق وعيًا من نخبها: مأساة ثورة أكتوبر السودانية - ثورة أكتوبر: انتفاضة مكتملة شكلاً… ناقصة تأسيسًا!
21/10/2025 خالد كودي، بوسطن
قراءة نقدية في ذاكرة الثورة السودانية ومآلاتها: أولاً: مدخل تاريخي – لحظة بين الضوء والظل: يُعدّ 21 أكتوبر 1964 واحدًا من أكثر التواريخ رسوخًا في الذاكرة السودانية الحديثة، إذ ارتبط بسقوط أول نظام عسكري بعد الاستقلال، نظام الفريق إبراهيم عبود (1958–1964)، وبعودة الحكم المدني في مشهد بدا، آنذاك، وكأنه انتصار للحرية على القمع وللمجتمع المدني على عسكرة الدولة. غير أن القراءة النقدية، في ضوء فلسفة التاريخ والعلوم السياسية، تكشف أن ما جرى لم يكن ثورةً مكتملةً بقدر ما كان انفراجًا محدودًا داخل بنية الدولة القديمة. قاد حراك أكتوبر نخبٌ مدنية من الطبقة الوسطى، وكانت رؤيتهم محدودة بحدود المركز، وبفهمٍ إصلاحي أكثر منه ثوري تحويلي. لم يتجاوز وعيهم لحظة إسقاط النظام العسكري نحو تأسيس نظامٍ جديد يعبّر عن التعدد الإثني والثقافي والديني، أو يعالج جذور مشكلات الدولة الاستعمارية التي أبقت الريف خارج التاريخ السياسي. لقد بدت أكتوبر، في ظاهرها، ثورة ضد الدكتاتورية، لكنها في جوهرها كانت تداولًا ناعمًا للسلطة داخل الطبقة الحاكمة نفسها، إذ أعادت إنتاج نخب ما بعد الاستقلال دون أن تمس البنية الطبقية، الاثنية، الجهوية او الدينية أو تحتفي بأصوات المهمشين. بذلك، أصبحت ثورة بلا تأسيس؛ أي بلا مشروعٍ دستوري جديد، أو رؤية اقتصادية بديلة، أو قطيعة فكرية مع منطق المركزية. الثورة — كما يعرّفها علم الاجتماع السياسي — ليست مجرد تغييرٍ للحاكم أو النظام، بل تحولٌ جذري في بنية الوعي والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ومن هذا المنظور، كانت أكتوبر ثورةً ناقصةً الوعي باللحظة التاريخية، لأن الجماهير كانت أكبر من وعي قادتها، ولأن ما بدا فجرًا جديدًا في الخرطوم لم يُشعل أيّ نورٍ في الأقاليم التي ظلّت أسيرة التهميش ذاته، منذ ذلك الحين حتي تفجر ثورات الهامش المعاصرة!
ثانيًا: جذور الثورة – من أزمة الجنوب إلى انتفاضة الجامعة: - فشل مشروع الدولة الوطنية بعد الاستقلال: بعد استقلال السودان في يناير 1956، تولّت النخب الحزبية والطائفية من أحزاب الأمة والاتحاديين ومن خلفهم طبقة الأفندية إدارة الدولة بوراثةٍ شبه كاملة لهيكل الحكم الاستعماري، دون أن تمتلك رؤية نقدية لتفكيك بنيته العنصرية أو تجاوز منطق المركز النيلي الذي أسّسه الاستعمار البريطاني–المصري. لقد ظنّ قادة تلك المرحلة أن الاستقلال السياسي يكفي لبناء وطن موحد، بينما تركوا جوهر الأزمة كما هو: دولة مهيمنة ثقافيًا ودينيًا على تنوعها- فقط استبدلوا مواقع المستعمر بأنفسهم. كانت النخبة الحاكمة آنذاك – بخلفيتها الثقافية العربية–الإسلامية المحافظة – تنظر إلى شعوب الجنوب وجبال النوبة والأنقسنا ودارفور والشرق نظرة استعلائية تُخفي في طياتها نزعة "تمدينية" زائفة، ترى في غير العرب وغير المسلمين مجتمعات "متخلفة" ينبغي "استيعابها" داخل النموذج العربي–الإسلامي عبر التعريب والأسلمة القسرية. وقد عبّر قادة سياسيون ودينيون في تلك الحقبة، مثل إسماعيل الأزهري، الصادق المهدي، والميرغني، وعلي عبد الرحمن الأمين، وغيرهم عن هذه الرؤية بصيغ مختلفة، معتبرين أن بناء الدولة يعني "توحيد الهوية" لا "الاعتراف بالتعدد." بهذا الوعي المحدود والمشوّه، تأسست الدولة الوطنية على الإنكار لا الاعتراف، وعلى الهيمنة لا المشاركة. لم تُبن دولة مواطنة، بل دولة طائفة وهوية واحدة. وعندما جاء الفريق إبراهيم عبود إلى السلطة في نوفمبر 1958، لم يكن انقلابُه انقطاعًا عن هذه الرؤية بل استمرارًا لها بصيغة عسكرية، إذ رفع شعار "النظام والانضباط" ليبرّر عسكرة الدولة ومركزة القرار، وأطلق أكثر مشاريع الأسلمة والتعريب قسوة في الجنوب. كانت تلك السياسات امتدادًا طبيعيًا للمنطق الذي تبنّته النخب الحزبية المدنية قبله، لا انحرافًا عنه. لقد فجّرت هذه السياسات تمرد توريت عام 1955، ثم غذّت الحرب الأهلية الأولى التي استمرت حتى 1972، وأعادت إنتاج الصراع بين المركز والهامش في صورٍ متجددة، من الجنوب إلى دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. وهكذا يمكن القول إن فشل النخب التي قادت الدولة بعد الاستقلال لم يكن فشلًا في الإدارة فحسب، بل فشلًا معرفيا، أخلاقيًا وثقافيًا في الاعتراف بالآخر، وهو ما جعل الحروب الأهلية في السودان ليست حوادث طارئة، بل نتيجة حتمية لبنية فكرية عنصرية زرعتها النخب في جسد الدولة منذ لحظة ميلادها.
- الشرارة: جامعة الخرطوم والوعي الجديد: في أكتوبر 1964، كانت البلاد تعيش احتقانًا سياسيًا واقتصاديًا خانقًا. قررت جبهة الهيئات (تحالف من النقابات المهنية والعمالية والطلابية) عقد ندوة في جامعة الخرطوم لمناقشة "مشكلة الجنوب"، وهو موضوع كان النظام العسكري قد حظره. أثناء الندوة، أطلقت الشرطة النار على الطلاب، فقُتل الطالب أحمد القرشي طه — ليصبح "أيقونة الثورة" وبداية العصيان المدني. توالت الاحتجاجات في المدن الكبرى، وتوسعت لتشمل العمال والموظفين، في إضراب سياسي عام هو الأول من نوعه في إفريقيا والعالم العربي في ذلك الوقت.
في 28 أكتوبر 1964، أعلن الجيش انحيازه "للشعب"، وأجبر عبود على الاستقالة، وفي 15 نوفمبر تشكلت حكومة انتقالية برئاسة سر الختم الخليفة.
ثالثًا: إنجازات الثورة وحدودها: ١/ إنجازات لا تُنكر: - إنهاء أول حكم عسكري في تاريخ السودان بعد الاستقلال. - إعادة الحريات العامة وعودة الأحزاب السياسية والنقابات. - تجربة انتقال مدني سلمي عبر انتخابات 1965 - إحياء النقاش حول قضية الجنوب ومحاولة معالجتها بالحوار (مؤتمر المائدة المستديرة 1965 ٢/ حدود التغيير ومفارقة “الثورة الناقصة: غير أن الثورة لم تكن قادرة على تجاوز حدّها التاريخي. فقد اكتفت النخب بعودة النظام الحزبي القديم دون مراجعة شاملة لبنية الدولة. رغم ما أنجزته ثورة أكتوبر 1964 من إسقاط للنظام العسكري واستعادة الحريات العامة، فإنها لم تُحدث تحوّلًا جذريًا في بنية الدولة السودانية، إذ بقيت الأسس القديمة كما هي. فعلى مستوى السلطة، لم يُحلّ جهاز الأمن، ولم يُعاد هيكل الجيش الذي ظلّ فاعلًا سياسيًا قويًا يتربص بالمشهد المدني، مما جعل الانتقال هشًّا منذ بدايته. أما في الاقتصاد، فقد استمر نمط الريع الزراعي الموجّه نحو المركز، وبقيت الأقاليم خارج معادلة التنمية، ما رسّخ التفاوت الجغرافي والاجتماعي بين المركز والهامش. وفي مسألة القومية والهوية، لم تنجح النخب في إنتاج تعريف جامع للدولة، بل استمرت في تصورها الأحادي الذي يرى السودان بلدًا عربيًا مسلمًا بالأساس، متجاهلة عمق التعدد الثقافي والإثني الذي شكّل قوام البلاد. أما القضية الجنوبية، التي كانت في أصل اشتعال الثورة، فلم تُعالج جذور مظالمها التاريخية، بل تحوّل التعامل معها إلى تفاوض شكلي لم يلبث أن انهار، لتعود الحرب من جديد. وفيما يخص التمثيل الاجتماعي، فقد عادت الأحزاب الطائفية لتحتكر الحكم مجددًا، وأُقصيت القوى الحديثة والنقابات التي أشعلت الثورة، فعاد المشهد السياسي إلى نقطة الصفر. وهكذا، تحوّلت ثورة أكتوبر من وعدٍ بالتأسيس إلى تسويةٍ تعيد إنتاج النظام نفسه، لتصبح لحظة إصلاح عابر أكثر من كونها قطيعة تاريخية مع دولة الهيمنة القديمة.
هكذا، عادت الدولة إلى نفس الدورة البنيوية التي أسقطت ثورة أكتوبر نفسها لاحقًا عبر انقلاب جعفر نميري في مايو 1969
رابعًا: النخب ورومانسية التغيير: أظهرت النخب التي تصدّرت مشهد ثورة أكتوبر 1964 من مثقفين، ومحامين، وأطباء، وأساتذة جامعات وعيًا إصلاحيًا محدودًا أكثر من كونه وعيًا ثوريًا تأسيسيًا. فقد تعاملت مع الثورة بوصفها فعلًا أخلاقيًا رمزيًا يكفي فيه إسقاط النظام العسكري ليتحقق التغيير، دون أن تمتلك تصورًا متماسكًا لبناء دولة جديدة أو لإعادة تعريف العلاقة بين المركز والهامش وكما يوضح المؤرخ محمد سعيد القدّال في تاريخ السودان الحديث، فإن الطبقة الوسطى التي فجّرت الثورة لم تمتلك مشروعًا طبقيًا أو اجتماعيًا واضحًا؛ إذ سرعان ما انخرطت في نفس التوازنات التقليدية التي حكمت الحياة السياسية منذ الاستقلال، واصطفت داخل حدود النظام الاجتماعي نفسه الذي ثارت عليه. لم تكن ثورة أكتوبر إذًا ثورة ضد البنية، بل ثورة داخل البنية؛ محاولةٌ لإصلاح النظام القديم لا لتجاوزه. لقد كانت تلك النخب من رموز "جبهة الهيئات" واتحاد المحامين والأطباء والمهندسين والجامعة، تُدرك الاستبداد العسكري لكنها لم تُدرك استبداد البنية الاجتماعية والثقافية التي أنتجته. فتصورها للتغيير ظل أسيرًا لنموذج الدولة المركزية العربية الإسلامية ذات المرجعية النيلية، وهو ما جعلها، موضوعيًا، تقف على الجانب ذاته من التاريخ الذي همّشت فيه الأقاليم. أما التيارات المحافظة، من الطائفية الدينية (الأنصار والختمية) إلى البيروقراطية المدنية، فقد تصدّت بقوة لأي محاولة لصياغة مشروع تأسيسي أو دستور جديد يفتح الباب لمساءلة هيمنة المركز أو لإعادة توزيع السلطة والثروة. وبدلًا من تحويل الثورة إلى لحظة تأسيس لعقد اجتماعي جديد، تم احتواؤها بسرعة ضمن آليات الحكم القديمة، فعادت الأحزاب نفسها إلى السلطة، واستمر الإقصاء ذاته، وتواصلت الحروب في الأطراف... الي يومنا هذا... وهكذا، تحوّلت ثورة أكتوبر إلى ثورة النخب بلا قاعدة، ثورة تفتقد امتدادها الشعبي، وتقوم على رومانسية التغيير أكثر مما تقوم على مشروع وعي بالتحوّل التاريخي المطلوب...
خامسًا: قراءة من منظور "التأسيس" – من أكتوبر إلى "تأسيس": من منظور فلسفة الدولة، يُمكن القول إن ثورة أكتوبر لم تُحدث قطيعة معرفية أو بنيوية مع "نظام ما بعد الاستعمار"، أي لم تدخل في طور "التأسيس" الذي يعيد تعريف الدولة نفسها. بل تركت مفهوم "الوطن" محصورًا في المركز النيلي، وواصلت تعريف الهوية السودانية بمفردات أحادية. أما مشروع "تأسيس" الراهن، فيقدّم محاولة جذرية لإعادة تعريف الدولة السودانية وفق مبادئ: - العلمانية كضامن للتعدد، - العدالة التاريخية كتصحيح للهيمنة القديمة، - اللامركزية كتحرير للسيادة الشعبية من المركز، - وحق تقرير المصير كآلية أخلاقية وسياسية للاعتراف بالآخر لو أن ثورة أكتوبر 1964 طرحت هذه القضايا حينها، ربما كان السودان قد تجاوز أزماته البنيوية قبل نصف قرن، وتجنّب دورات الانقلابات والحروب الأهلية التي أعقبتها!
سادسا: عند النظر في الثورات السودانية الثلاث الأكثر اعترافا، أكتوبر 1964، أبريل 1985، وديسمبر 2018 ، يتضح أنها جميعًا حملت سمات التمرد الشعبي والطموح نحو الحرية، لكنها وقعت في الفخ البنيوي ذاته: غياب المشروع التأسيسي القادر على تحويل الغضب إلى بنية دولة جديدة. كانت ثورة أكتوبر 1964 سلمية ومدنية الطابع، قادتها النقابات والمهنيون، واستطاعت إسقاط أول نظام عسكري، لكنها توقفت عند حدود استعادة الديمقراطية الشكلية دون إعادة تعريف الدولة أو معالجة جذور أزماتها. لم تُمسّ البنية الاقتصادية الريعية، ولم تُطرح أسئلة الهوية والمواطنة والعدالة التاريخية بمعرفة ولا بجدية، فعادت الأحزاب الطائفية لتحتكر المشهد كما كان قبل الانقلاب! أما ثورة أبريل 1985، التي أنهت حكم جعفر نميري، فقد بدت تكرارًا شبه حرفي لتجربة أكتوبر؛ إذ أُسقط النظام لكن لم يُسقط نظام الدولة القديمة. تولت السلطة ذات النخب السياسية التي شاركت في الفشل الأول، فعاد السودان إلى الدائرة ذاتها: ديمقراطية قصيرة تفضي إلى انقلاب جديد! في ثورة ديسمبر 2018، كان الوعي أعمق والمشاركة أوسع. خرجت فئات المجتمع كافة، من الريف إلى المدن، من النساء والشباب إلى الهامش المهمّش تاريخيًا. ومع ذلك، صودرت الثورة في مركز القرار السياسي، حين عادت النخب لتتفاوض باسم الجماهير، ففُرّغت من مضمونها الثوري وتحولت إلى تسوية مع المؤسسة العسكرية. بهذا المعنى، يمكن القول إن جميع هذه الثورات — رغم اختلاف سياقاتها — أعادت إنتاج الحلقة التاريخية نفسها: يسقط النظام، يملأ الفراغ السياسي تحالف نخب هش من المدنيين والعسكريين، تُعقد تسوية مؤقتة، ثم يستعيد العسكر السلطة. والسبب البنيوي العميق وراء هذا التكرار هو غياب الرؤية التي تقود الي العقد الاجتماعي الجديد الذي يعيد توزيع السلطة والثروة على أسس العدالة والمواطنة، أي غياب الميثاق التأسيسي الذي وحده يمكن أن يحوّل الانتفاضات من لحظات احتجاج إلى فعل تأسيس لدولة جديدة.
:سابعا: ماذا لو" – التاريخ الممكن لثورة أكتوبر" لو أعدنا النظر في ثورة أكتوبر 1964 من موقع النقد التاريخي لا التمجيد الرومانسي، لوجدنا أن تلك اللحظة التي بدت لكثيرين ميلادًا وطنيًا جديدًا، كانت في جوهرها فرصةً ضائعةً لتأسيس الدولة السودانية الحديثة. فقد قاد الثورة طلاب جامعة الخرطوم والنقابات المهنية، من شخصيات بارزة كما ورد تردد مثل عبد الخالق محجوب، محمد إبراهيم نقد، حسن الترابي، أحمد السيد حمد، فاروق أبو عيسى، والجزولي دفع الله... وغيرهم من رموز الطبقة الوسطى النيلية التي اختزلت هدف الثورة في إسقاط النظام العسكري دون أن تمتلك الجرأة الفكرية أو السياسية على مساءلة بنية الدولة التي أنجبته. كانت أكتوبر، في حقيقتها، لحظة وعي ناقص، وعيٍ سياسي محدودٍ لم يرَ في الدولة سوى وعاءٍ ينبغي "تطهيره" من الحكم العسكري، لا بنيةً استعمارية يجب إعادة تأسيسها من الجذور. لم يتساءل قادة الثورة عن طبيعة المركز وهيمنته، ولا عن التفاوت الطبقي، والإقليمي، ولا عن العلاقة الملتبسة بين الدين والهوية والدولة. وبحكم انتمائهم إلى طبقة وسطى مدينية تشكّلت في ظل الامتيازات الاستعمارية، ظل وعيهم حبيس المدينة والجامعة والبيروقراطية، بعيدًا عن نبض الريف والهامش حيث كان جوهر الأزمة السودانية حينها، وللأسف الي يومنا هذا! سقط الفريق إبراهيم عبود، لكن لم تسقط الدولة التي صنعته. بقي الجيش قوةً سياسية فاعلة، واستمر الاقتصاد الريعي المركزي الموجّه نحو العاصمة، واحتفظت الدولة بهويتها العربية–الإسلامية الرسمية التي تُقصي التنوع الثقافي والأفريقي والغير مسلم. لم يجرؤ أحد من هؤلاء القادة على طرح أسئلة التأسيس الجوهرية: العلمانية، اللامركزية، العدالة التاريخية، وتقرير المصير الثقافي. كان أفقهم الفكري محصورًا في ما أسموه "اسقاط العسكر"، أي العودة إلى الحكم المدني، لا تأسيس عقدٍ اجتماعي جديد يعبّر عن جميع السودانيين. ولو أن قادة ثوار أكتوبر امتلكوا وعيًا أعمق بتعقيدات السودان التاريخية والثقافية، وطرحوا دستورًا علمانيًا لامركزيًا يعترف بالتعدد الديني والاثني، وامتدت الثورة إلى الريف والمناطق المهمشة كما اشتعلت في المدن والجامعات، لربما كان السودان اليوم دولةً مدنيةً حقيقيةً، متعددة الهويات، مستقرة في جنوبها وغربها وشرقها، ومتصالحة مع نفسها ومع تاريخها. لكن ما حدث أن الوعي الجماهيري تجاوز وعي النخب التي ادّعت قيادته، ولايزال- فبينما كانت الجماهير حينها تطالب وتطمح لتحرر شامل من القهر السياسي والاجتماعي، كانت النخب تسعى إلى تدوير السلطة داخل مركز الخرطوم. وهكذا انتهت ثورة أكتوبر لا كتأسيسٍ لزمنٍ جديد، بل كعودةٍ مُزخرفة إلى الزمن القديم بثيابٍ سودانية مدنية، ثورة أطلقت الوعود الكبرى، لكنها عجزت عن كسر بنية الهيمنة التي ما زالت تحكم السودان حتى اليوم!
ثامنًا: الخلاصة – الثورة والذاكرة والواجب المؤجَّل: في الذاكرة الوطنية، تُقدَّم ثورة أكتوبر 1964 بوصفها لحظة وعي جماعي فريدة، ورمزًا للبطولة المدنية في تاريخ السودان الحديث. غير أن القراءة التاريخية الدقيقة تكشف أنها لم تكن لحظة تأسيس دولة جديدة بقدر ما كانت تبديلًا في الواجهة السياسية دون تغيير في بنية السلطة أو الاقتصاد أو الثقافة السياسية. سقط رأس النظام، لكن جسد الدولة الاستعماري المركزي بقي على حاله. تقدّم الخطباء، لكن المؤسسات لم تتحرك، وبقيت أجهزة القمع والإقصاء قائمة، وإن بثوب مدني جديد إن التمجيد السطحي لأكتوبر — الذي تحوّل إلى طقس احتفالي موسمي — لا يخدم الوعي الوطني بقدر ما يكرّس الوهم بأن التغيير قد حدث فعلًا. فبالنسبة لغالبية السودانيين، خاصة في الأقاليم المهمشة مثل دارفور، وجبال النوبة، والشرق، وجنوب النيل الأزرق، لم تُحدث ثورة أكتوبر أي فرق ملموس في حياتهم اليومية. لم تُبن مدارس جديدة، ولم تُعبّد طرق، ولم يُرفع عنهم التهميش السياسي أو الاقتصادي. بل يمكن القول إن الاحتفاء المبالغ فيه بأكتوبر أعاق أحيانًا الوعي التاريخي، حين جعل البعض يظن أن مهام التغيير قد أُنجزت، بينما الحقيقة أن تلك المهام لا تزال قائمة وأكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
إن الواجب الأخلاقي والتاريخي اليوم ليس تخليد أكتوبر بوصفها نهاية، بل البناء عليها بوصفها بداية مؤجلة. فالتحدي الراهن أمام السودانيين ليس إسقاط نظام ديكتاتوري عسكري جديد، بل تأسيس دولة جديدة: دولة تقوم على العدالة التاريخية و القانون لا الولاء، على الإنتاج لا الريع، وعلى التعدد والمواطنة المتساوية لا الامتيازات التاريخية. وفي ضوء الحروب الأهلية والانهيار الاقتصادي الراهن، لم يعد ممكنًا البقاء أسرى لذاكرة الثورات غير المكتملة. المطلوب اليوم ليس مجرد "ثورة أخرى"، ولا أوهام "استكمال ثورة" منقوصة منطلقا، بل ثورة تأسيس تنقل الوعي إلى دستور، والدم إلى عدالة، والمقاومة إلى بناء — ثورة تكتب ميلاد السودان الذي لم يولد بعد - ثورة تكتب ميلاد سودان جديد!
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة