Post: #1
Title: عسكرة الدولة وصعود مشروع السودان الجديد (1983 – 2005) كتبه مها الهادي طبيق
Author: مها الهادي طبيق
Date: 10-21-2025, 02:06 AM
03:06 AM October, 20 2025 سودانيز اون لاين مها الهادي طبيق-Sudan مكتبتى رابط مختصر
بقلم :
بين عامي 1983 و2005 عاش السودان واحدة من أطول وأعقد فتراته السياسية . فقد اختلط الدين بالسلطة ، والعسكر بالأيديولوجيا ، وتحولت الحرب الأهلية إلى معركة حول هوية الدولة نفسها . وخلال هذه العقود ، تبلورت ملامح السودان المنقسم ، الذي انتهى لاحقًا بانفصال الجنوب عام 2011 ، لكن جذور ذلك الانقسام تعود في الحقيقة إلى تلك الحقبة بالذات .
بدأت القصة عندما انتقل جعفر نميري من تبني النهج الاشتراكي إلى إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية . فبعد توقيعه اتفاقية أديس أبابا عام 1972 ، التي منحت الجنوب حكمًا ذاتيًا واسعًا ، حاول نميري لاحقًا استعادة السيطرة الكاملة على الإقليم . بدأ التنقيب عن النفط في مناطق بانتيو والوحدة عام 1980 ، فاحتدم الصراع حول ملكية الموارد . وفي عام 1983 أصدر نميري قوانين سبتمبر المعروفة بقوانين الشريعة الإسلامية ، وطبّقها بصرامة حتى على غير المسلمين . كما ألغى الحكم الذاتي الجنوبي ، وقسّم الإقليم إداريًا ، وأرسل الجيش لقمع أي تمرد . وكانت النتيجة اندلاع الحرب الأهلية الثانية بقيادة جون قرنق ، الذي طرح مشروعًا سياسيًا جديدًا تمامًا .
هكذا ولدت الحركة الشعبية لتحرير السودان ، التي لم ترفع شعار الانفصال منذ البداية ولكنها دعت إلى قيام ما أسمته "السودان الجديد" — دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية ، تقوم على المواطنة بدلاً من الهوية الدينية . رأى قرنق أن الأزمة بجانب الصراع بين الشمال والجنوب ، تكمن في طبيعة الدولة السودانية نفسها ، التي قامت على الإقصاء والمركزية . ومع مرور الوقت ، أصبحت الحركة قوة عسكرية وسياسية كبرى ، تسيطر على معظم مناطق الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق ، وتحظى بدعم إقليمي ودولي من أوغندا وإثيوبيا والغرب .
لكن سقوط نظام نميري عام 1985 لم يفتح بابًا حقيقيًا للتغيير . فخلال فترة الديمقراطية الثالثة (1985 – 1989)، تولت حكومة انتقالية برئاسة سوار الذهب ، ثم حكومة منتخبة برئاسة الصادق المهدي . إلا أن الأحزاب التقليدية عجزت عن إدارة التنوع أو التفاوض الجاد مع قرنق . استمرت الحرب ، وارتكبت القوات المسلحة انتهاكات واسعة في جوبا وملكال ، بينما تعاملت القوى الشمالية مع قرنق كمتمرد ماركسي لا كمشروع وطني بديل . وهكذا ضاعت فرصة تاريخية لبناء السودان الجديد عبر الحوار السياسي .
وفي عام 1989 ، وقع انقلاب الإنقاذ الذي قاده عمر البشير وحسن الترابي تحت شعار "ثورة الإنقاذ الوطني" ، لتبدأ مرحلة جديدة من القمع الأيديولوجي . تمّت أسلمة الحرب وتحويلها إلى "جهاد مقدس" ضد الجنوب ، وجُنّد آلاف الأطفال والشباب في معسكرات الدفاع الشعبي ، واستخدم الطيران والأسلحة الثقيلة ضد المدنيين . كما شهدت مناطق التماس عمليات تطهير عرقي واسعة ، خاصة في بور وملكال وجبال النوبة . أصبحت الحرب وسيلة لترسيخ السلطة وبناء دولة الحزب الواحد .
ومع نهاية التسعينيات تغيّر المشهد الدولي . فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، تبنّى الغرب خطاب حقوق الإنسان ، ووجد في جون قرنق حليفًا معتدلًا في مواجهة النظام الإسلامي بالخرطوم . تصاعدت الضغوط الدولية بقيادة الولايات المتحدة وكينيا وإثيوبيا ، لتفتح الطريق أمام المفاوضات التي انتهت بتوقيع اتفاق نيفاشا عام 2005 .
نصّت الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة بنسبة خمسين في المئة بين الشمال والجنوب ، وعلى فترة انتقالية مدتها ست سنوات يعقبها استفتاء لتقرير المصير ، كما أنشأت حكومة وحدة وطنية وجيشين متوازيين . لكنها كانت صفقة سياسية مؤقتة ، إذ منحت الجنوب مؤسسات مستقلة عن الدولة المركزية ، فحملت في داخلها بذور الانفصال منذ البداية .
وخلال هذه المرحلة ، ترسخت الانقسامات بدلاً من تجاوزها . لم تنهِ نيفاشا الحرب وإنما نظّمتها سياسيًا بين شريكين متشاكسين ، وثبّتت الثنائية بين الشمال والجنوب ، فيما استمر تهميش أقاليم أخرى مثل دارفور والشرق وجبال النوبة . كما أدى تدويل الملف السوداني إلى تحويله إلى ورقة ضغط بيد واشنطن ونيروبي .
أما من حيث النتيجة ، فقد انفصل الجنوب فعليًا منذ عام 1983 عندما ألغى نميري الحكم الذاتي ، وليس في 2011 حين أعلن الاستقلال الرسمي . فالحركة الإسلامية أقامت نظامًا أيديولوجيًا مغلقًا أقصى الجميع ، وحوّل الصراع من سياسي إلى وجودي . أما اتفاق نيفاشا فكان هدنة استراتيجية مهّدت للانفصال لاحقًا .
يمكن القول إن السودان ، منذ ثورة أكتوبر 1964 وحتى نيفاشا 2005 ، ظل يدور في دائرة مغلقة: ثورة → أمل → فشل → حرب → اتفاق → انهيار . وكل مرحلة أعادت إنتاج الدولة نفسها : دولة المركزية والدين والإقصاء . أما الجنوب فقد خرج من تلك الدائرة بثمن باهظ ، نال استقلالًا سياسيًا على جثة وطن مكسور .
مها الهادي طبيق 20 اكتوبر 2025
|
|