Post: #1
Title: عبود كيف أشعل الجنوب بالنار الرسمية الجيش والهوية في سنوات ما قبل أكتوبر (1958–1964)
Author: مها الهادي طبيق
Date: 10-18-2025, 10:33 PM
10:33 PM October, 18 2025 سودانيز اون لاين مها الهادي طبيق-Sudan مكتبتى رابط مختصر
عبود كيف أشعل الجنوب بالنار الرسمية
الجيش والهوية في سنوات ما قبل أكتوبر (1958–1964)
بقلم : طبيق
حين أطاح الفريق إبراهيم عبود بالحكومة في نوفمبر 1958، رفع شعار "الإنقاذ من الفوضى الحزبية"، ووعد بإصلاح الدولة وإعادة النظام . بدا المشهد وكأن البلاد دخلت مرحلة من الانضباط والاستقرار . لكن ما حدث كان العكس تمامًا . من خلف تلك الواجهة الهادئة ، بدأت واحدة من أكثر الفترات قسوة في تاريخ السودان الحديث . حيث اصبحت في عهده امتدادًا للثكنات . تحولت الدولة إلى جهاز عسكري ضخم يُدار بالأوامر ، وفقد السودان صوته المدني . أُلغيت الأحزاب ، وجُمّدت الحياة البرلمانية ، وكمّمت الصحف . ومن يومها بدأ عهد "الأمر والطاعة" وفتح شهية الجيش للسلطة .
لكن الأخطر بجانب القمع السياسي ، إعادة تشكيل هوية البلاد من أعلى . فالنظام العسكري رفع راية جديدة تقول إن السودان دولة عربية إسلامية ، وعلى الجنوب أن "يلتحق بالهوية الوطنية" . كانت تلك لحظة ميلاد مشروع هندسة قسرية للهوية ، أراد أن يصهر كل اختلاف في بوتقة واحدة ، ولو بالقوة .
في بداية الستينيات ، كان الجنوب يغلي . التمرد الذي اندلع أول مرة في توريت عام 1955 ظل محدودًا لسنوات ، لكن عبود حوله إلى حرب مفتوحة . فُرضت حالة الطوارئ ، وانتشرت القوات في جوبا وملكال وواو ، وبدأت حملات الإعدام الميداني والاعتقال الجماعي . تحوّل الجنوب كله في نظر الدولة إلى "منطقة متمردة" . فشهادات تلك الفترة تتحدث عن مجازر مروّعة ضد المدنيين الجنوبيين ، خصوصًا بعد أحداث 1963–1964. وثائق بريطانية لاحقة أكدت تنفيذ عمليات إعدام جماعي بحق أكثر من 300 شخص في ملكال وجوبا ، بأوامر مباشرة من ضباط في الجيش . كانت تلك أولى صفحات الدم الرسمية في سجل الدولة السودانية .
لم تقتصر المعركة على السلاح . استخدم النظام أدوات أخرى لفرض السيطرة الثقافية والدينية . أُغلقت المدارس التبشيرية التي كانت تديرها الكنائس ، وفُرض تدريس اللغة العربية والدين الإسلامي في مؤسسات الجنوب . أُرسل معلمون شماليون في ما سُمّي "حملات التنوير" ، بينما طُرد كثير من المعلمين الجنوبيين من وظائفهم .فأصبح التعليمً والتعريب قسريًا مما زرع الكراهية بدل التفاهم ، وعمّق الهوة بين الشمال والجنوب .
أما الإعلام الرسمي ، فتحوّل إلى سلاح من نوع آخر . كان يصف الجنوبيين بأنهم "عملاء للاستعمار" و"أعداء الإسلام" . ومع تكرار هذه العبارات ، ترسخت في الوعي العام صورة الجنوب كخطر داخلي . هكذا تغيّر الصراع من مسألة سياسية إلى قضية هوية ودين . والأسوأ أن هذا الخطاب ظل حاضرًا رغم سقوط عبود في الأنظمة التي جاءت بعده .
عبود كان يؤمن أن وحدة السودان لا تُحمى إلا بالقوة العسكرية . لكن النتيجة كانت العكس ، حيث تضاعف عدد اللاجئين إلى أوغندا والكونغو ، وظهرت الحركة المسلحة بقيادة جوزيف لاقو تحت اسم "الأنيانيا" . مما أدى إلي أن فقدت الخرطوم سيطرتها الفعلية على مناطق واسعة من الجنوب ، وبدأت عمليًا أول حرب أهلية في تاريخ البلاد .
بحلول عام 1964، كانت النيران قد امتدت من الجنوب إلى الشمال . الغضب الشعبي بلغ ذروته ، وخرج طلاب جامعة الخرطوم في مظاهرات ضخمة بعد مقتل الطالب أحمد القرشي . فكانت تلك الشرارة التي فجّرت ثورة أكتوبر وأسقطت عبود . لكن سقوط الجنرال لم يوقف الحرب ، وإنما كشف أن جذور الأزمة أعمق من أي نظام ، وأن الخلل في بنية الدولة نفسها .
سنوات عبود كانت لحظة اختبار للدم والوطن . فيها استُخدم الجيش لإدارة السياسة ، والإعلام لتبرير القمع ، وسلاح الهوية لتقسيم الناس . وحين رحل عبود ، بقيت الدولة التي صنعها قائمة — بوجه جديد فقط .
ومن بين رماد تلك "الحرب الصامتة" وُلدت ثورة أكتوبر 1964، حاملةً مفارقة قاسية : ثورة للحرية في الشمال ، وصمت للدم في الجنوب .
مها الهادي طبيق 18 اكتوبر [email protected]
|
|