مالم تتعلمه نخب السودان من أمريكا- جوازٌ أمريكي... ووعيٌ عباسي كتبه خالد كودي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 10-13-2025, 12:20 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-10-2025, 06:44 PM

خالد كودي
<aخالد كودي
تاريخ التسجيل: 01-01-2022
مجموع المشاركات: 155

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مالم تتعلمه نخب السودان من أمريكا- جوازٌ أمريكي... ووعيٌ عباسي كتبه خالد كودي

    06:44 PM October, 10 2025

    سودانيز اون لاين
    خالد كودي-USA
    مكتبتى
    رابط مختصر





    10/9/2025 ، بوسطن

    عندما نتحدث عن التهميش المؤسّسي في السودان، فإننا لا نعني فقط الإقصاء الفوري أو التمييز الظاهر، بل نتحدث عن شبكة متوارثة من الهياكل السياسية والاقتصادية والثقافية التي صُمِّمت منذ الاستقلال، إن لم يكن منذ الحكم الاستعماري، لإبقاء فئاتٍ واسعة من الشعب خارج دائرة المشاركة الفعلية في القرار الوطني. هذه الشبكة لا تُقصي الأطراف فحسب، بل تُعيد إنتاج نفسها عبر آليات التعليم، والثقافة الرسمية، والتمثيل السياسي، فتخلق ما يشبه "القدر الاجتماعي" الذي يُعيد إنتاج الامتياز جيلاً بعد جيل.
    الحرب الأهلية التي يعيشها السودان اليوم ليست انفجاراً طارئاً، بل نتيجة حتمية لتراكم هذا التهميش المؤسسي. فحين يُحرَم الإنسان من الاعتراف التاريخي والتمثيل السياسي والعدالة الاقتصادية، يتحوّل الإقصاء إلى مقاومة، والمقاومة إلى حربٍ وجودية. إنّ المدن المدمَّرة والقرى المحروقة ليست فقط آثار نزاعٍ مسلّح، بل شواهد على انهيارٍ أخلاقي وفكري طويل، ظلّت فيه النخب المركزية متمسكة ببنية الامتياز القديمة التي صنعتها. فبينما تدّعي هذه النخب "الحياد" أو "العقلانية السياسية"، هي في الواقع تمارس أعمق أشكال الدفاع عن النظام الاجتماعي الذي مكّنها من السلطة والتعليم والتمثيل منذ قيام الدولة.
    في المقابل، تظهر اليوم مقاومةٌ عميقة لهذا التهميش، لا بوصفها ردّ فعلٍ آني، بل كحركة تاريخية تسعى لإعادة تأسيس الدولة من جذورها. فكما يقول المؤرخ الأميركي هوارد زِن في كتابه تاريخ الشعب الأمريكي، "التاريخ الحقيقي هو تاريخ الاحتمالات التي لم تُنتَخَب، والتاريخ الرسمي يخفي دائمًا صراعات الهامشيين" بهذا المعنى، فإنّ سردية السودان الرسمية — كما كتبتها نخب المركز — أخفت نضالات الهوامش وأصواتهم، وكرّست رواية أحادية للهوية والوطن. لذلك، لا يكفي رفع الظلم الظاهري أو تقديم الاعتذار الرمزي؛ بل يجب إعادة كتابة الرواية الوطنية من جذورها.
    يؤكّد كورنيل ويست أنّ "العدالة ليست مجرّد توزيع للثروة، بل إعادة تكوين للعلاقات التي أنتجت ذلك التوزيع". وهذا ما ينطبق على السودان اليوم: فالقضية ليست في إعادة قسمة الثروة أو السلطة فحسب، بل في تفكيك البنية التي جعلت المركز مركزاً والهامش هامشاً — بنية الدولة، التعليم، الدين، والثقافة. فبدون هذا التحوّل الجذري، ستظل الحرب تتخذ أشكالاً جديدة، لأنّ التهميش، في جوهره، هو الحرب الأهلية المؤجّلة.

    ومما يزيد المشهد السوداني قتامةً أن كثيرًا من النخب السودانية التي هاجرت إلى الولايات المتحدة منذ سبعينيات القرن الماضي لم تنجح في المساهمة بما تجاوز البنية الذهنية التي أنتجت التهميش داخل السودان نفسه، وطنهم الام- بنية "العقلية العباسية". فقد حملت هذه النخب معها مركزيتها القديمة كما يُحمَل الإرث في حقائب السفر، ولم تنفتح على التجربة التاريخية العميقة لسيرورة العدالة الاجتماعية في المجتمع الأميركي، حيث شهدت فئات المهمشين — من الأميركيين الأفارقة والسكان الأصليين والمهاجرين الفقراء — مسارًا معقّدًا من النضال والمراجعة، أنتج فكرًا نقديًا ومؤسسات تشريعية متقدمة، مثل قانون الحقوق المدنية (1964)، وبرامج العدالة التصحيحية، والنقاشات الفلسفية حول الذاكرة والاعتراف.

    غير أنّ هذه النخب السودانية، التي كان يمكن أن تتعلّم من التجربة الأميركية معنى التحوّل الاجتماعي العميق، اكتفت بدور المتفرج في مجتمع متحوّل، فعادت إلى السياسة السودانية بخطاب متكلّس يُعيد إنتاج وهم النخب الصلف والفارغ نفسه الذي ساد في الخرطوم لعقود: خطاب "الحياد" و"العلمية" المنزوعة المعنى. فقد أقامت مراكز بحث ومنظمات غير حكومية في المهجر تتحدث باسم "العقلانية" و"الديمقراطية"، لكنها في الجوهر تعيد إنتاج منطق المركز القديم: إنكار التاريخ الفعلي للمهمشين السودانيين، تزويره وتجاهل البنية العنصرية والطبقية التي صنعت الدولة السودانية الحديثة.
    مثل هذا النمط من النخبوية المنبتة في كتابه:(W. E. B. Du Bois)لقد وصف دي-بويس
    The Souls of Black Folk
    حين تحدّث عن "الوعي المزدوج"
    (double consciousness)؛
    إن هؤلاء "المتعلمين السطحيين"، كما وصفهم هوارد زن في حديثه عن "النخب التي تتواطأ مع السرد الرسمي للتاريخ"، لا ينتجون فكرًا، بل يُعيدون ترتيب الكلمات في قوالب بائسة. يعيشون في قلب المجتمع الأميركي، حيث النقاشات عن العدالة التاريخية (Historical Justice)
    وحقوق السكان الأصليين، وامتيازات البيض، حاضرة في كل جامعة وكتاب، ومع ذلك لا يخرج من بينهم مشروع معرفي واحد يستلهم تلك التجارب لإعادة بناء الوعي السوداني، وياعيب الشؤوم!
    إنّ مأساة هذه النخب ليست فقط في أنها لم تتعلّم شيئًا من بلدٍ صنع ولايزال تجربة فريدة في العدالة الاجتماعية من خلال معارك السود والأقليات والمهاجرين، بل في أنّها لا تزال تظن أن "الحياد" فضيلة فكرية في مواجهة واقع يتطلّب الانحياز للحق. ولذلك جاءت رؤاهم عن مهمشي وطنهم "محايدة" في الشكل، فارغة في الجوهر؛ بيروقراطية الفكر، وفقيرة الخيال، لا تتجاوز ما يسميه كورنيل ويست "تديّن الأكاديميا" — أي الإيمان بالنصوص دون الإيمان بالتحرّر. فهم لم يتعلموا من "تجربة البلد الذي هاجروا إليه"، بل ظلّوا، كما قال لويس غيتس في تحليله للهوية السوداء في الشتات، "عالقين بين مرآتين: مرآة المستعمِر القديم، ومرآة الدولة الحديثة التي لم تتحرّر بعد."

    بين التجربتين: الدرس المقارن
    G.I. Billتكشف تجربة قانون ال
    في الولايات المتحدة أن حتى الدول ذات المؤسسات الراسخة يمكن أن تفشل في تحقيق العدالة إذا لم تُصحّح البُنى العميقة للهيمنة العِرقية. ورغم نبل القانون في مبدئه — تمكين الجنود العائدين من التعليم والسكن والعمل — فإن تطبيقه في الخمسينيات جرى عبر مؤسسات محلية كرّست التمييز ضد السود، فاستفاد منه البيض بالأساس، وبقيت الفوارق الطبقية والعرقية على حالها، وهذا ما ظل يحدث في السودان وما هو متوقع من النخب سواء في السودان، في أمريكا او غيرها.
    في السودان، المأساة أعمق: فالدولة ذاتها وُظِّفت منذ الاستقلال كأداة للتمكين المركزي على أسس دينية وعرقية وجهوية. لذا، فإن فكرة العدالة التاريخية هنا لا تعني فقط إصلاح الخلل، بل تفكيك المنظومة التي أنتجته.

    ومن التجربتين يمكن استخلاص دروس أساسية:
    - المساواة الشكلية لا تكفي — فالقوانين "المحايدة" يمكن أن تُستخدم لتكريس التمييز، كما تفعل نخب السودان باسم الوحدة أو الوطنية تارة وبالأغلبية تارة وباسم التأهيل والخبرة تارة اخري.
    - ضرورة السياسات التأسيسية — عبر التعليم وتنمية ذكية ومستدامة للمناطق المهمَّشة، واستثمارات بنيوية تضمن العدالة المكانية.
    - إعادة تاسيس مؤسسات الدولة المركزية — إذ لا معنى لتوزيع الموارد دون إعادة هيكلة أجهزة التخطيط والتنمية التي تتحكم فيها النخب المنحازة وعديمة الرؤية والشجاعة التي تتطلبها اللحظة التاريخية
    - العدالة الرمزية والذاكرة الوطنية — بالاعتراف بالمآسي وإعادة كتابة التاريخ، كما يؤكد المؤرخ ديفيد بلايت في دراساته حول الذاكرة والرقّ.
    - مشاركة المتضررين في صناعة العدالة، فالعدالة لا تُمنَح من الأعلى، بل تُبنى من القاعدة، من صوت الضحية نفسه.
    بهذا المعنى، فإن العدالة التاريخية في السودان ليست مطلباً إصلاحياً، بل مشروع تأسيسٍ وطني جديد يعيد تعريف الدولة نفسها

    التهميش المؤسسي في السودان: مظاهره التاريخية والمعاصرة- السياق التاريخي:
    منذ الحقبة الاستعمارية البريطانية–المصرية، تأسّست بنية الدولة السودانية على مركزية سياسية وثقافية تُركّز السلطة في الشريط النيلي الشمالي، وتُخضع بقية الأقاليم — من الغرب إلى الجنوب والشرق — لمنطق التبعية الإدارية والاقتصادية. فبينما أُنشئت المدارس الحديثة، والمستشفيات، والبنية التحتية في المدن الشمالية الكبرى، تُركت الأطراف في عزلة تنموية مقصودة، تُدار عبر سلطات محلية محدودة الصلاحيات. وقد وثّقت دراسات تاريخية عدة هذا النمط، منها دراسة بعنوان "The Case of the Marginalizing State in Sudan"
    التي تُظهر كيف استخدمت الدولة المركزية أدوات الإدارة والقانون لتكريس تفاوت إقليمي ممنهج.
    بعد الاستقلال عام 1956، ورثت النخب السياسية من الطبقة الوسطى النيلية تلك البنية الاستعمارية، ولم تُحاول تفكيكها، بل أعادت إنتاجها في صيغة جديدة تحت لافتة "الوحدة الوطنية". كانت النتيجة أن تحوّل السودان إلى دولة "نخبوية الطابع" تُدار من المركز، بينما تحوّلت الأطراف إلى "مناطق موارد" تُستخرج منها الثروة، لا شركاء في صنعها. هذا التمركز لم يكن سياسيًا واقتصاديًا فحسب، بل ثقافيًا ودينيًا أيضًا، إذ أصبح الإسلام، منذ قوانين سبتمبر 1983، مؤسسة هيمنة تُستخدم لإعادة تعريف الهوية السودانية رسميا في اتجاه أحادي يقصي التنوع الديني والثقافي العميق في البلاد.
    لقد أدى تديين الدولة — عبر توظيف الشريعة الإسلامية كأداة تشريعية وسياسية — إلى نفيٍ ممنهجٍ لحقوق غير المسلمين والمجموعات ذات الخلفيات الأفريقية–المسيحية أو التقليدية، خصوصًا في الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق. فبدلًا من أن يكون الدين مجالًا للتعدد الروحي، تحوّل إلى ذريعة لبناء "دولة نقاء ديني" كما يسميها الفيلسوف كورنيل ويست في تحليله لمفهوم "الدين كهيمنة رمزية"، حيث تصبح العقيدة أداة للسلطة لا للعدالة.

    النخب السودانية في المهجر الأميركي: ازدواج الوعي واستمرار الهيمنة:
    في أمريكا علمانيون... وفي السودان أولياء وصوفيون!
    المفارقة أن كثيرًا من النخب السودانية المهاجرة إلى الولايات المتحدة، التي وجدت نفسها في مجتمع علماني يفصل الدين عن الدولة ويقدّس الحريات المدنية، لم تستوعب هذا النموذج في فكرها أو خطابها العام. بل ظلّت هذه النخب — التي تدّعي الحداثة والانفتاح — تحمل معها ذات البذور الإقصائية والمركزية القديمة. فحين تُسأل عن العلمانية أو فصل الدين عن الدولة، تُجيب بذريعة "أن أغلبية السودانيين مسلمون"، أو بأن تبنّي العلمانية "قد يفقدنا الحياد والقبول الشعبي"، وكأن الحياد قيمة أخلاقية في مواجهة الظلم، لا تواطؤ مع استمراره... نفاق ليس بعده!
    إنّ بعض هذه النخب، في مراكز الأبحاث والمنظمات الحقوقية في أميركا، تذهب أبعد من ذلك، فتدعو — بعبارات "تصالحية" ظاهرها الاعتدال — إلى "تطبيق الشريعة الإسلامية بطريقة مرنة" أو "احترام الخصوصية الإسلامية للدولة السودانية"، متجاهلة أن الشريعة، كما مورست سياسيًا في السودان، لم تكن إلا غطاءً لإقصاء غير المسلمين، وتبرير الحرب ضدهم، وانتهاك حقوق المرأة والمهمشين. لقد تحوّل الدين في خطابهم إلى قناع أخلاقي للهيمنة لا إلى رافعة للعدالة
    W.E.B. Du Bois وهنا يُمكن استدعاء مفهوم الوعي المزدوج عند دبوايس
    فهذه النخب تعيش ما يشبه الانشطار بين صورتها أمام الغرب وصورتها أمام المركز السوداني. في أمريكا، تتحدث لغة "العدالة الاجتماعية" و"المواطنة المتساوية"، وفي السودان وتجاهه تعود لتستند إلى إرث الدولة الإسلامية–العربية، متناسية تجارب المجتمعات التي تعيش فيها مثل تجربة الأميركيين الأفارقة، والسكان الأصليين، واللاتينيين، الذين أعادوا بناء معنى المواطنة من خلال نضال طويل ضد الدين الرسمي، والعنصرية، والرأسمالية الاحتكارية.
    لقد وصف هوارد زِن هذا النمط من النخبوية في تحليله لتاريخ الولايات المتحدة بأنّه "تحالف العارفين مع السلطة"، أي أن بعض المثقفين يلبسون رداء الموضوعية ليخفوا خضوعهم للبنية التي يُفترض أن ينتقدوها. والنخب السودانية في أميركا تمثّل هذا النموذج بامتياز: مؤسساتها "مدنية" في ظاهرها، لكنها فقيرة المعنى والإبداع؛ تمارس الحياد في وجه الاستبداد، وتستعيض عن الموقف الأخلاقي بالتحليل المحايد العقيم، وتكتفي بترديد لغة المنح والتمويل بدلاً من إنتاج فكرٍ تحرّري أصيل.
    إنّهم يعيشون، كما قال لويس غيتس في تأملاته حول المثقف الأسود في الشتات، "بين مرآتين متقابلتين: مرآة السيد ومرآة الذات المستلبة" كما أسلفنا، فلا يرون إلا صورهم المكرورة في مؤسسات التمويل والمنصات البحثية. بل إنّ بعضهم يعيد إنتاج الإسلام السياسي في صيغة "ليبرالية" مزيّفة، تُقدّم الدين كمكوّن ثقافي لا سياسي، لكنها تُعيد تمكين نفس المنظومة التي قتلت التنوع السوداني لعقود. وهكذا، يثبت أن الهجرة لم تكن تجربة تحوّل بل استمرارًا للجمود القديم في فضاء جديد.
    إنّ مأساة هؤلاء، كما يقول كورنيل ويست، ليست في الجهل، بل في "الافتقار إلى الشجاعة الأخلاقية"، إذ لا يمكن أن يكون المثقف حرًا وهو يهرب من مواجهة فكرة العلمانية مثلا، وهي الإطار الوحيد القادر على حماية الدين نفسه من التسييس، وضمان المساواة بين المواطنين في وطن تعددي كالسودان.

    لماذا تُعَدّ العدالة التاريخية شرطاً جوهرياً للتغيير والسلام في السودان؟
    إنّ العدالة التاريخية ليست مجرّد مطلب أخلاقي أو شعارٍ سياسي، بل هي الركيزة التأسيسية لأي مشروع لإعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة. فهذه الدولة وُلدت مثقلةً بأخطاء بنيوية متراكمة — من التفاوت الطبقي والاستبعاد الثقافي إلى التمييز الديني وتغوّل المركز على الأطراف — ما يجعل إصلاحها من داخل منظومتها القديمة ضرباً من إعادة إنتاج الإخفاق ذاته. فالتغيير الحقيقي لا يبدأ بالمصالحات الشكلية ولا بتقاسم السلطة، بل بالاعتراف الكامل بالمواطنة المتساوية، والمواطنة لا تكتمل إلا حين تقوم على علمانية الدولة بوصفها الضامن الوحيد لحيادها وعدالتها تجاه جميع مواطنيها، بصرف النظر عن الدين أو الاثنية أو النوع أو الجهة.
    هذا الفهم العميق للعلاقة بين العدالة، والحرية، والعلمانية كان في صميم الوعي التأسيسي للدولة الحديثة ذاتها. فقد أدرك الآباء المؤسسون للولايات المتحدة — من توماس جيفرسون إلى جيمس ماديسون وبنجامين فرانكلين — أن الدولة حين تمتزج بالدين تتحول بالضرورة إلى سلطة استبدادية باسم المقدس. لذلك نصّ التعديل الأول للدستور الأميركي على حظر أي قانون “يحترم إقامة دين أو يمنع ممارسته”، واضعاً بذلك الأساس لدولة مدنية علمانية تضمن حرية الاعتقاد لجميع مواطنيها. لم يكن هذا الموقف إنكاراً للإيمان، بل تحريراً له من قبضة الدولة، إدراكاً بأن الإيمان لا يكون حراً إلا متى انفصل عن سلطة التشريع والسياسة.
    لكن المفارقة المؤلمة أن كثيراً من النخب السودانية التي عاشت في قلب هذه التجربة الديمقراطية العلمانية لم تستوعب جوهرها. يعيشون في نظامٍ يكفل لهم حرياتهم الدينية والفكرية، ومع ذلك يعودون للحديث عن "هوية الأغلبية" و"تديُّن المجتمع"، وكأنهم لم يدركوا بعد أن العدالة لا تتحقق عبر هيمنة ثقافة واحدة، بل عبر ضمان المساواة بين جميع الثقافات والعقائد. يرفضون العلمانية باسم الحياد، ولا يدركون أن الحياد الحقيقي لا يكون بين الجلاد والضحية، بل في تفكيك البنية التي تنتج الظلم ذاته.
    إنّ هؤلاء النخبويين الذين يتغنّون بالحرية في المهجر ويخشونها في الوطن، لم يتأملوا في دروس التاريخ الذي يعيشون في ظله. لم يقرأوا ما كتبه جيفرسون حين قال إنّ "الحرية الحقيقية تبدأ حين تُفصل الكنيسة عن الدولة"، ولم ينتبهوا إلى أن الولايات المتحدة احتاجت قرناً كاملاً بعد استقلالها لتدرك أن الحرية لا تكتمل إلا حين تُمنح لجميع مواطنيها — للسود، وللسكان الأصليين، وللفقراء والمهاجرين على حدٍّ سواء. تلك هي العدالة التاريخية بمعناها العميق: ليست تصحيحاً لماضٍ منسيٍّ فحسب، بل تحويلاً جذرياً في بنية الوعي والدولة والمجتمع، حتى لا يُعاد إنتاج الظلم بأسماء جديدة.
    تاريخياً، قاوم الأميركيون البيض أنفسهم الحقوق المدنية، من حرية السود إلى حقهم في التصويت، إلى الجلوس في المقاعد الأمامية للحافلات، إلى الالتحاق بالجامعات، إلى الشرب من نوافير الماء نفسها. لم تكن تلك الحقوق هديةً من المجتمع، بل ثمرة صراع فكري وأخلاقي طويل قاده الكثيرين مثل دبويز وديفيد بلايت وكورنيـل ويست وهوارد زن وجيمس بالدوين وغيرهم، ممن رأوا في العدالة التاريخية فعلًا سياسيًا وأخلاقيًا يعيد تعريف معنى الإنسان في التاريخ....
    بهذا المعنى، فإنّ العدالة التاريخية في السودان لا يمكن أن تتحقّق دون استلهام هذا الوعي التأسيسي — أي أن الاعتراف بالمواطنة المتساوية هو أصل العقد الاجتماعي الجديد، وأنّ العلمانية ليست تهديدًا لهوية السودان، بل هي الوسيلة الوحيدة لإنقاذه من دوائر الحرب والتفكك. فكما لم تكن العدالة الأميركية وليدة الإجماع، لن تكون العدالة السودانية وليدة الرضا العام، بل وليدة شجاعة أخلاقية تُصرّ على المساواة حتى حين يرفضها الجمهور...
    إنّه لمدعاة للخزي أن تعيش بعض النخب السودانية في قلب التجربة الأميركية — حيث أرقى نماذج الدستور والمواطنة والحرية — ثم تعود لتبرّر في وطنها دولة دينية واستبداداً مقنّعاً باسم الأغلبية. لقد تعلّم الأميركيون من أخطائهم وأعادوا صياغة وعيهم، بينما ظلّت نخبنا، رغم هجرتها، سجينة وعيٍ قديمٍ لم تبرحه يوماً.
    فالعدالة التاريخية ليست تعويضاً مادياً ولا جَبراً للضرر فحسب، بل تحول تأسيسي في بنية الدولة والوعي، إعادة صياغة للعقد الاجتماعي وبعث جديد لمفهوم المواطنة، تماماً كما مثّل التنوير الأميركي لحظة ميلاد لزمنٍ إنساني جديد. ومن دون هذا الاعتراف الجذري، سيظل السودان عالقاً في ماضيه، يعيد إنتاج مأساةٍ لا تنتهي.

    لقد علّمنا مفكّرون من المهاجرين والمنفيين، مثل إدوارد سعيد في كتابه المنفى والسياسة الثقافية، وجيمس بالدوين في
    The Fire Next Time
    أن وظيفة المثقف ليست في مهادنة السلطة أو المجتمع، بل في تسمية الشر باسمه. والمثقف السوداني في المهجر، إذا أراد أن يكون صادقًا مع تجربة البلد الذي يعيش فيه، عليه أن يعي أن العدالة التاريخية في السودان لا يمكن أن تتحقّق من دون إعادة تعريف جذرية للمواطنة، تعني بالضرورة فصل الدين عن الدولة وعلمانيتها، وإعادة توزيع السلطة والثروة، والاعتراف الصريح بالمظالم التي تراكمت منذ الاستقلال.
    إنّ بناء السودان الجديد لن يكون امتدادًا لدولةٍ قديمة مصحّحةٍ شكليًا، بل تأسيسًا أخلاقيًا ومعرفيًا جديدًا — دولة لا تستمد شرعيتها من الدين أو العرق أو اللغة، بل من العدالة والمواطنة المتساوية. وهذه هي الدروس التي غفل عنها من عاشوا في أميركا دون أن يتعلّموا منها شيئًا: أن التغيير يبدأ من الاعتراف بالظلم، وأنّ العدالة ليست مطلب الهامش فحسب، بل امتحان جوهر الشعوب السودانية منفردة او مجتمعة.

    الوعي المزيّف للنخبة... والضرورة التاريخية لـ"تأسيس:
    لقد أثبتت التجربة أنَّ أزمة كثيرٍ من النخب السودانية المقيمة في الدايسبورا ليست في المعرفة وحدها، بل في غياب الشجاعة التأسيسية. فقد تعلّم الكثير منهم في جامعاتٍ تحتفي بحرية الفكر، وتعيش تحت مظلة قوانينٍ علمانية تضمن المساواة والكرامة، لكنهم ظلّوا أسرى لوعيٍ قديمٍ يقوم على الامتياز الطبقي والوصاية الثقافية. هاجروا بأجسادهم لا بعقولهم، وما زالوا يتحدّثون عن السودان كملكية رمزية تعود لهم بحكم النسب أو الدين او "الجدارة الأكاديمية"، متناسين أنَّ الشعوب التي في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وفي المنافي والمخيمات، تجاوزت وعيهم المتردد وبدأت تبني مشروعها بوعي الهامش المقاوم!
    لهذا تأتي ضرورة ميثاق "تأسيس": لا باعتباره وثيقة سياسية فحسب، بل أفقاً تاريخياً وأخلاقياً يعيد تعريف الدولة على أسس جديدة — علمانية، لا مركزية، قائمة على العدالة التاريخية والمواطنة المتساوية. فكلّ البدائل سقطت أخلاقياً وتاريخياً، ولم يبقَ سوى هذا الطريق الذي يربط الضمير بالفعل، والعدالة بالتحرر.
    إنّ بناء السودان الجديد يبدأ من إعادة صياغة الوعي الوطني عبر التعليم، والعدالة، والمشاركة، لا عبر وساطات المناورة بالهوية والوصاية او الاحتيال. فالتاريخ لا ينتظر من يخاف الحقيقة، و"تأسيس" ليس خياراً سياسياً بين خيارات، بل ضرورة حتمية لقطع دائرة الخداع وإعادة ميلاد الدولة على أسس الحرية، المساواة، والشجاعة الفكرية.

    النضال مستمر والنصر اكيد.
    (أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de