في بلدٍ تغطيه الغابات الاستوائية الكثيفة، وتتداخل فيه ظلال الأشجار كما تتشابك المصالح، يتجدد الصراع على عروش السلطة بين الرئيس سلفا كير ميارديت ونائبه رياك مشار، وكأن الغابة السياسية في جوبا لا تعرف هدوءاً.
فبدلاً من أن تكون مؤسسات الدولة مظلة للحكم الرشيد، تحوّلت إلى أدوات لتصفية الحسابات بين رفاق السلاح بالأمس وخصوم الكرسي اليوم.
القرارات الأخيرة بفرض الإقامة الجبرية على مشار، وما تبعها من اتهامات جنائية عبر وزارة العدل تصل إلى مستوى الخيانة، تكشف عن انتقال الصراع من ميادين السياسة إلى دهاليز الدولة نفسها، حيث تُستخدم القوانين كسلاحٍ في معركة النفوذ.
وبينما يترقّب الشارع الجنوبي مآلات هذا الصراع المتطاول، تبدو البلاد وكأنها غابة سياسية كثيفة لا يحكمها الدستور بقدر ما تحكمها شريعة البقاء للأقوى.
في خطوة تنذر بانفجار الوضع من جديد، اتهمت وزارة العدل في جنوب السودان يوم 11 سبتمبر النائب الأول للرئيس رياك مشار بارتكاب جرائم قتل وخيانة وإرهاب وجرائم ضد الإنسانية، على خلفية هجوم شنته قوات ما يعرف بـ«الجيش الأبيض» التابعة له في مارس الماضي على قاعدة عسكرية في ولاية أعالي النيل، أسفر عن مقتل أكثر من 250 جندياً بينهم جنرال بارز، إضافة إلى استهداف مروحية تابعة للأمم المتحدة ومقتل أحد طياريها. وأعلن وزير العدل جوزيف قنق أكيش أن هذه الجرائم «تخللتها انتهاكات لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني»، مؤكداً أن مشار، الخاضع للإقامة الجبرية منذ أشهر، يواجه أيضاً مع سبعة آخرين، بينهم وزير النفط السابق بوت كانج تشول، اتهامات بالتآمر وتدمير الممتلكات العامة والأصول العسكرية.
يمثل هذا التطور تصعيداً خطيراً يزيد المشهد السياسي والأمني تعقيداً، ويؤكد هشاشة اتفاق السلام الموقع عام 2018، الذي كان يفترض أن يطوي صفحة حربٍ أهلية أودت بحياة نحو 400 ألف شخص وشردت الملايين. فإذا كان فرض الإقامة الجبرية على مشار قد عُدّ خرقاً واضحاً للاتفاق، فإن الاتهامات الحالية تمثل انتقالاً من «الاحتواء السياسي» إلى «التجريم القانوني»، ما يهدد ليس فقط مستقبل مشار السياسي، بل وجود الاتفاق ذاته.
في مارس الماضي، حاصرت عشرات المركبات المصفحة مقر إقامة مشار في جوبا وأوقفته، في مشهد يعيد إلى الأذهان سيناريو 2013 عندما اتُّهم بمحاولة انقلابية ضد سلفا كير، ما فجّر حرباً أهلية مدمرة. آنذاك وصف مشار إبعاده بأنه «دليل على حكم الرجل الواحد»، وهو الخطاب ذاته الذي عاد يردده اليوم، لكن في مواجهة تهمٍ جنائية هذه المرة قد تقضي على مستقبله نهائياً.
تتداخل الولاءات القبلية والعسكرية في جنوب السودان بشكل يجعل السياسة رهينة الحسابات الإثنية. فميليشيا «الجيش الأبيض»، المؤلفة أساساً من شباب قبيلة النوير التي ينتمي إليها مشار، كانت لسنوات ورقة ضغط في يده. إلا أن الهجوم الأخير منح الحكومة مبرراً لتحويل الخلاف السياسي إلى قضية «أمن دولة»، واستغلالها لإضعاف نفوذه داخلياً.
ولفهم جذور الأزمة، لا بد من العودة إلى تاريخ الصراع بين قبيلتي الدينكا والنوير، اللتين تمثلان العمود الفقري للسلطة والسلاح في الدولة الوليدة. فمنذ الاستقلال عام 2011، احتكر الرئيس كير، المنتمي إلى الدينكا، مؤسسات الحكم، بينما شعر النوير بالتهميش، ما جعل التوازن القبلي هشاً وقابلاً للانفجار مع أي أزمة.
لقد أعاد اتفاق السلام لعام 2018 مشار إلى منصبه كنائب أول، وأقرّ ترتيبات لتقاسم السلطة ودمج القوات وإنشاء محكمة مختلطة للعدالة الانتقالية. لكن التنفيذ ظل متعثرًا بسبب بطء الإصلاحات الأمنية والسياسية، وتأجيل الانتخابات، وفشل تأسيس المؤسسات القضائية المستقلة. ومع الاتهامات الجديدة، يبدو أن الاتفاق لم يعد إطارًا للتسوية، بل أصبح غطاءً هشاً لتأجيل الانفجار. تحويل مشار إلى متهم جنائي يُضعف شرعية فصيله ويقوّض تمثيل النوير، مما قد يؤدي إلى انقسامات داخل الجيش الحكومي نفسه. أما دولياً، فيضع هذا التطور المجتمع الدولي أمام معضلة: كيف يمكن الحفاظ على استقرار جنوب السودان دون مكافأة الإفلات من العقاب أو الانحياز لأحد الطرفين؟
المشهد الحالي المضطرب يفتح الباب لثلاثة احتمالات رئيسية:
1.محاكمة داخلية تنهي مستقبل مشار السياسي وتثير احتجاجات مسلحة من أنصاره.
2.تدخل دولي يقود إلى تسوية جديدة تفرضها ضغوط الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة.
3.تصعيد ميداني من قبل فصائل موالية له يعيد البلاد إلى أتون حرب أهلية شرسة لا تبقي ولا تذر.
وفي كل السيناريوهات، يبقى جوهر الأزمة واحداً: غياب مؤسسات دولة قادرة على تجاوز الولاءات القبلية وتحقيق العدالة الشاملة
الهجمات الأخيرة خلفت مئات القتلى والنازحين، وأعاقت عمليات الإغاثة، ما دفع دولاً غربية كألمانيا وبريطانيا إلى تقليص بعثاتها الدبلوماسية.
تؤكد الأزمة الحالية أن دولة جنوب السودان لا تزال أسيرة «غابة السلطة»، حيث تتصارع القبائل على جذوع الحكم كما تتصارع الوحوش في ظلال الأشجار الكثيفة. ولن يخرج هذا البلد من دوامة العنف إلا بإصلاح أمني شامل يضمن ولاء الجيش للدولة لا للأفراد، وبناء هوية وطنية تتجاوز القبيلة، وإجراء انتخابات حرة تضع نهاية لدائرة الدم.
ففي غابة السياسة الجنوبيّة، من لا يملك جذراً عميقاً في الأرض تقتلعُه العاصفة عند أول ريح.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة