١/ مقدمة سينمائية: "ميلاد أمة" وخرافة العجز عن الحكم: في عام 1915، أخرج المخرج الأمريكي ديفيد وورك غريفيث فيلمه الشهير "ميلاد امة" Birth of a Nation وهو أحد أكثر الأفلام تأثيرًا في تاريخ السينما الأمريكية، لكنه أيضًا من أكثرها عنصرية. صوّر الفيلم مرحلة ما بعد الحرب الأهلية الأميركية، مقدّمًا "الزنوج" المحرَّرين كرمزٍ للفوضى والانحطاط، غير مؤهلين للحكم أو ممارسة السياسة، في مقابل "البيض" الذين يعيدون النظام عبر تأسيس جماعة الكو كلوكس كلان. في أحد مشاهده الشهيرة، يظهر رجل أسود في قاعة الكونغرس حافي القدمين، يأكل الدجاج بشراهة ويعبث بمقعده، في تنميط وإشارة رمزية تهدف لترسيخ الفكرة بأن الإنسان الإفريقي الأمريكي غير مؤهل للحكم". لقد شكّل الفيلم –بخطابه البصري– الأساس الثقافي لتبرير إعادة حرمان السود من الحقوق المدنية والسياسية، وترسيخ نظام الفصل العنصري لاحقًا فيما عرف بـقوانين جيم كرو. ومن هنا تنطلق المفارقة المعاصرة: فحين تتعالى اليوم في السودان أصواتٌ تطالب بأن يتولى "التكنوقراط" الحكم لأن الآخرين "غير مؤهلين او اكفاء"، علينا أن نتذكر أن هذه الفكرة نفسها خرجت من رحم الاستعمار والعنصرية، وأنها كانت دومًا أداة لتبرير الإقصاء، فعجيب ان تخرج مثل هذه الأفكار ممن هاجروا الي أمريكا ذات التاريخ الغني بما نحن فيه!
٢/ الكذبة الاستعمارية ونسختها السودانية: النخب المركزية في السودان تاريخيا، استنسخت سردية الاستعمار حول "عدم التعلم والتأهيل" لتبرير احتكارها للدولة. كما قال فرانتز فانون في معذبو الأرض: "الاستعمار لا يكتفي بالسيطرة على الأرض، بل يقنع المستعمَر بعجزه عن إدارة نفسه." هذه الكذبة تواصلت في السودان تحت لافتات جديدة: "الخبرة"، "التحضّر"، "الكفاءة"، وكلها أدوات لإبقاء السلطة في يد قلة من النخب التي ورثت بنية المستعمِر دون أن تملك رؤيته الأخلاقية أو قدرته التنظيمية والإدارية! الأمثلة التاريخية كثيرة، منها: في أميركا بعد الحرب الأهلية، أُقصي الأفارقة الأميركيون من السياسة بحجة "عدم التأهيل"، ثم فُرضت عليهم قوانين جيم كرو، ولاتزال اثار هذا الاقصاء باقية! "الهنود الحمر" صُوِّروا كقبائل "بدائية" لا تصلح للحكم، فحُشروا في "محميات"؛ لم يكن ذلك بدافع الحماية، بل سياسة ممنهجة للسيطرة على الأرض والموارد. والنخب السودانية اليوم تعيد إنتاج هذه الذريعة حين تبرر إقصاء أبناء الأقاليم المهمّشة بأنها "غير مؤهلة للقيادة"، متناسية أن التهميش ذاته كان صنيعتها التاريخية.
التكنوقراط: قناع الهيمنة الجديدة: يُقدَّم خطاب "التكنوقراط" أو ما يُسمّى أحيانًا بـ"علماء وخبراء السودان" بوصفه دعوة بريئة إلى المهنية والكفاءة، غير أن هذا الخطاب يخفي في جوهره أيديولوجيا متخفّية لإعادة احتكار الدولة بوسائل جديدة. وكما أوضح أنطونيو غرامشي (1891–1937) في تحليله للمثقفين العضويين، فإن التكنوقراط ليسوا محايدين، بل ينتمون إلى كتل تاريخية تخدم مصالح طبقية محددة، ويعملون – بوعي أو بدونه – على إعادة إنتاج علاقات القوة السائدة. فاستدعاؤهم لإدارة الدولة ليس قرارًا فنيًا بل سياسيًا، يُلبِس السيطرة وجهًا علميًا عقلانيًا. لقد أثبت التاريخ الحديث أن التكنوقراط يمكن أن يكونوا أدوات خطيرة للاستبداد حين تُفرغ الكفاءة من بعدها الأخلاقي وتُربط بالسلطة: - في ألمانيا النازية (1933–1945)، كان ألبرت شبير – مهندسًا معماريًا ووزيرًا للتسليح – نموذجًا لـ"التكنوقراط الطيع"، الذي استخدم علمه لبناء آلة الحرب والإبادة الجماعية باسم الكفاءة الصناعية. - وفي إيطاليا الفاشية (1922–1943)، صاغ تكنقراط اقتصاديون وسياسيون ما سُمي بـ"الدولة العضوية"، حيث تُخضع الحرية لمفهوم الانسجام التقني والتنظيم الاجتماعي "العلمي" الذي يبرّر القمع ويشرعن الطاعة. - أما في الولايات المتحدة، فقد وثّق المؤرخ هاورد زِن (Howard Zinn) - A People’s History of the United Statesفي كيف استُخدمت الكفاءة التقنية والإدارية لتبرير السياسات الإمبريالية في الخارج، وتحويل إدارة الفقر في الداخل إلى آلية ضبط اجتماعي لا أداة تحرر ومنفعة لمجتمع متعدد. ويُذكّرنا المؤرخ ديفيد بلايت (David Blight) في Race and Reunion أن أخطر الأكاذيب التي أعقبت إلغاء الرق عام 1865 كانت الزعم بأن التنمية تحتاج إلى "قيادة بيضاء متعلمة"، أي تكرار لصيغة "عدم التأهيل" في لغة اقتصادية حديثة – وهي الصيغة نفسها التي تتبناها اليوم نخب سودانية فقدت مشروعها، فاستعارت أدوات الاستعمار لتبرير عجزها السياسي. وفي السودان، تجلت هذه الظاهرة في أوضح صورها، إذ تحوّل "التكنوقراط" إلى أداة تزيينٍ للنظام الاستبدادي ان لم يكونوا مهندسيه: - حسن الترابي (1932–2016)، خريج السوربون، فقيه دستوري ومفكر أكاديمي، استخدم علمه لتأسيس أكثر المشاريع السياسية ظلامًا تحت اسم "المشروع الحضاري". لم يأت الترابي بجديد، بل أعاد إنتاج الفكرة الاستعمارية ذاتها التي ظهرت في القرن الخامس عشر مع عصر الاكتشاف الأوروبي، حين بررت أوروبا غزوها للعالم غير الأوروبي بشعار "تمدين الشعوب البدائية". فالترابي أعاد إحياء منطق "الفتوحات" باسم الإسلام في القرن الحادي والعشرين، متوهمًا أنه يقود نهضة، بينما كان يعيد إنتاج نفس أيديولوجيا التبشير والاستعمار الديني في قالب محلي. - عبد الرحيم حمدي، "مهندس الاقتصاد"، وصاحب ما عُرف بـ"مثلث حمدي"، اختزل السودان في محور عربي–إسلامي، وأقصى دارفور والشرق والجنوب من الخريطة التنموية، مانحًا شرعية أكاديمية لإعادة إنتاج التهميش. - عوض الجاز، أمين حسن عمر، نافع علي نافع، المتعافي، علي كرتي، وحتي كامل إدريس وجوقته: جميعهم تكنوقراط بشهادات عالية ومناصب رفيعة، لكنهم قادوا الدولة نحو الفساد، والتمكين، والخراب الاقتصادي والحروب الأهلية، لا نحو التنمية أو العدالة. - أما مواهيم "التخطيط الاستراتيجي" الجدد، مثل أبوصالح، فيستعيدون أوهام "الهندسة الاجتماعية" نفسها التي جرّبتها الأنظمة الشمولية، وجربها اجلاف الإسلاميين بمشروعهم الحضاري في السودان، متناسين أن الإنسان ليس مادةً تُعاد صياغتها في مختبر، بل كائن اجتماعي–تاريخي يصنع ذاته في الصراع من أجل الحرية! إن التأهيل الأكاديمي أو التقني لا يمنع ارتكاب الجرائم السياسية أو الأخلاقية. بل كثيرًا ما تُستخدم المعرفة نفسها لتبرير القمع، كما استُخدمت "العلوم العرقية" في القرن التاسع عشر لتسويغ العبودية والاستعمار. وهكذا يتحول خطاب "الكفاءة" إلى قناعٍ للهيمنة، يُخفي الخوف من الشعب الحقيقي، ويعيد تعريف السياسة بوصفها اختصاصًا لا حقًا، علمًا لا مشاركة، ومهنةً لا مسؤولية تاريخية.
: ٤/ من تجربة الأمريكان الأفارقة إلى دروس السودان بعد إلغاء العبودية رسميًا في الولايات المتحدة عام 1865 بموجب التعديل الثالث عشر للدستور، دخل الأمريكان الأفارقة مرحلة جديدة من النضال ضد ما يمكن وصفه بـ"العبودية الثانية"، أي الحرمان المنظّم من التعليم والحقوق السياسية. فسرعان ما ظهرت سردية جديدة تبرّر الإقصاء، تزعم أن السود "جهلة وغير مؤهلين" للحكم والمواطنة الكاملة، وهي الذريعة التي استخدمت لتقويض مكتسبات فترة إعادة الإعمار (1865–1877)، حيث حُرموا من التصويت وفرضت عليهم قوانين جيم كرو التي شرعنت الفصل العنصري لعقود طويلة. (Jim Crow) إلا أن الرد الثوري على هذا الإقصاء لم يكن الاستسلام، بل مشروعًا تاريخيًا للتحرر الذاتي عبر التعليم والتنظيم الاجتماعي. فبدأ الأمريكان الأفارقة في تأسيس مدارسهم وجامعاتهم الخاصة — أبرزها جامعة هوارد (Howard University) عام 1867- وجامعة فيسك (Fisk University) عام 1866، وغيرها من الجامعات السوداء التاريخية... (HBCUs) — التي تحولت إلى فضاءات مقاومة رمزية ومعرفية في آنٍ واحد. هذه المؤسسات لم تكن مجرد مدارس، بل مختبرات فكرية أنتجت أجيالًا من المثقفين الثوريين، من أبرزهم W.E.B. Du Bois (1868–1963) الذي دعا في كتابه The Souls of Black Folk أي ضرورة أن يحمل المتعلمون من أبناء الهامش مسؤولية الارتقاء بجماعتهم عبر المعرفة والتنظيم، لا عبر انتظار اعتراف الدولة البيضاء ومؤسساتها. وبفضل هذا الوعي الجماعي، تهيأت الأرض لحركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن العشرين، التي قادها مارتن لوثر كينغ جونيور، مالكوم إكس، وأنجيلا ديفيس وغيرهم من المفكرين والمناضلين الذين جسّدوا تحول التعليم إلى أداة مقاومة. وقد بيّنت ديفيس في أعمالها اللاحقة مثل: Freedom Is a Constant Struggle (2016) أن النضال ضد العنصرية لا ينفصل عن النضال ضد البنية الطبقية والاجتماعية، وأن التحرر لا يُمنح من فوق، بل يُنتزع من أسفل عبر التنظيم والمعرفة والمقاومة المستمرة. من هذه التجربة، يتضح أن التحرر لا يحتاج إلى وصاية، بل إلى فرصة عادلة. فالمجتمعات المهمّشة لا تعاني "عجزًا فطريًا" كما تزعم النخب، بل تُقصى عبر منظومات ممنهجة تحرمها من التعليم ثم تستخدم هذا الحرمان كدليل على "عدم التأهيل" — وهي الكذبة نفسها التي حلّلها فرانتز فانون في معذبو الأرض (1961) بوصفها "جوهر الخطاب الاستعماري"، حيث يُقنع المستعمِر المستعمَرَ بعجزه عن إدارة ذاته. إن الدعوات الراهنة من السودانيين في الدايسبورا – ومنها امريكا إلى "حكم التكنوقراط" تعيد إنتاج الخطاب نفسه في صيغة معاصرة: فهي لا تختلف في جوهرها عن تلك التي كانت تُقال للسود الأميركيين في القرن التاسع عشر — "لستم جاهزين للديمقراطية" والحقوق المدنية ومنها حق التصويت حينها. لكن كما أثبت التاريخ، فإن من وُصفوا يومًا بأنهم "غير مؤهلين" كانوا هم من أسّسوا المدارس، وصاغوا الدساتير الجديدة، وقادوا حركات التحرر لاحقًا. وهكذا، فإن الدرس الأهم للسودان اليوم هو أن التأهيل الحقيقي ليس أكاديميًا ولا تكنوقراطيًا، بل وطنيٌّ وتاريخي: يُكتسب من النضال، من التجربة، ومن الوعي الجمعي بضرورة العدالة والمساواة. إن إعادة إنتاج خطاب "عدم التأهيل" ما هي إلا عودة للاستعمار بوجه محلي، يلبس ثوب الكفاءة ليحجب الخوف من الشعب، ومن قدرته على أن يحكم نفسه.
٥/ المتعلمين والتكنوقراط في بناء السودان الجديد: من هيمنة المعرفة إلى وعي التحرير: إن المرحلة الراهنة في السودان تضع على عاتق المتعلمين والتكنوقراط مسؤولية فكرية وأخلاقية كبرى: إعادة النظر في وظيفة المعرفة ودورها في بناء الدولة والمجتمع. فكما أكّد باولو فريري في تعليم المقهورين (1970)، التعليم ليس فعلًا تقنيًا محايدًا بل فعل تحرري أو قهري، يحدد ما إذا كانت المعرفة أداة للانعتاق أم وسيلة لإدامة السيطرة. المعرفة، في جوهرها، ليست مجرد امتلاك أدوات التحليل أو التقنية، بل وعي نقدي بالتاريخ، وبالعلاقات غير المتكافئة التي تنتج الظلم وتعيد إنتاجه لقد آن الأوان لأن تتحرر النخب التكنوقراط السودانيون من أوهام التفوق الأكاديمي والإيديولوجي التي رسختها الدولة المركزية منذ الاستقلال، حين جعلت "التعليم وغض النظر عن الكفاءة" غطاءً لاحتكار السلطة باسم هذا التعليم أو الخبرة "قض النظر عن عوامل الكوسة طبعا"! فالمتعلم الذي لا يربط علمه بتحرير نفسه والآخرين يظل، كما يقول فريري، "أسيرًا في وعي السادة الزائف". فالمطلوب اليوم هو أن يتحول التعليم من أداة نخبوية إلى قوة اجتماعية لبناء وعي جمعي نقدي يعترف بالمواطنة المتساوية كأساس للدولة العلمانية الديمقراطية اللامركزية.
دروس من التجارب العالمية: توافق الرؤية السياسية والمعرفة التقنية: لقد أثبتت تجارب الشعوب أن التكامل بين الكفاءة التقنية والرؤية السياسية الأخلاقية هو أساس النهوض الوطني، لا العكس. - جنوب إفريقيا (1994): حين تولّى مهندسون وأطباء وخبراء اقتصاد من نضال المؤتمر الوطني الإفريقي مسؤولياتهم في الحكومة، لم ينفصلوا عن جذورهم الاجتماعية، تولوها برؤية سياسية مفادها جنوب بل جعلوا من الكفاءة وسيلة لتثبيت العدالة والمساواة، وفق رؤية نيلسون مانديلا وديزموند توتو حول العدالة التصالحية وإعادة بناء الثقة. - الهند بعد الاستقلال (1947): جمع جواهر لال نهرو بين العلم والسياسة، فأسس مشروعًا وطنيًا يعتمد على التحديث الصناعي والعلمي ضمن نظام ديمقراطي علماني، مؤمنًا أن "العلم بلا إنسانية هو أداة استبداد جديدة" - تشيلي بعد بينوشيه (1990): حين أعادت النخبة العلمية والاقتصادية اليسارية – من خريجي جامعة تشيلي وجامعة كاليفورنيا – صياغة الاقتصاد والسياسة ضمن مشروع العدالة الاجتماعية، رافضة "تكنوقراطية النيوليبرالية" التي بنت الديكتاتورية. - ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية (1945): أدرك العلماء والفلاسفة الألمان أن التقنية التي خدمت النازية يجب أن تتحول إلى أداة للسلام، فأسسوا جامعات ومراكز فكرية تربط العلم بالمسؤولية الأخلاقية، كما في مدرسة فرانكفورت (هابرماس، أدورنو،ماركرزه) - الولايات المتحدة بعد حركة الحقوق المدنية ( 1960 جسّد مفكرون مثل دي بويس، و وأنجيلا ديفيس نموذج المثقف الملتزم، الذي يستخدم علمه لتحرير جماعته، لا لطلب الاعتراف من الدولة البيضاء. الجامعات السوداء التاريخية – مثل “هوارد” و“فيسك” – أثبتت أن التعليم النقدي يمكن أن يكون سلاح مقاومة لا وسيلة استتباع.
الجديدة: أخيرًا: نحو عقدٍ معرفي جديد لبناء وإدارة الدولة السودانية في سياقٍ بالغ التعقيد كالسودان، حيث تتقاطع الحرب الأهلية الطاحنة مع هشاشة البنية المؤسسية للدولة، يصبح الحديث عن "حكومة تكنوقراط" بديلاً عن المشروع الوطني مجرّد وهمٍ جديدٍ في ثوبٍ قديم. فهذه الدعوات التي تروّج لإسناد إدارة البلاد إلى "خبراء محايدين" أو "تكنوقراط الدياسبورا" تتجاهل أن الصراع السوداني ليس أزمة إدارةٍ تقنية، بل أزمة بنية دولةٍ مؤدلجةٍ وممزقةٍ إثنيًا ودينيًا، ما زال أحد أطرافها يتمثل في ديكتاتوريةٍ عسكريةٍ ذات عقيدةٍ إسلاميةٍ جهاديةٍ عطشى للدماء، تواجه تحالفًا مدنيًا–تحرريًا (تحالف "تأسيس") بدأ عمليًا في بناء مؤسساتٍ جديدة تستند إلى ميثاقٍ ودستورٍ علمانيٍ ديمقراطيٍ لا مركزي في حكومة اسموها حكومة السلام والوحدة! في ظل هذا الواقع، فإنّ دور التكنوقراط والمتعلمين لا يمكن أن يكون مجرد "ترميم" وإعادة بناء للمؤسسات القديمة التي قامت على المركزية والتمييز، بل المشاركة الواعية في إعادة تأسيس مؤسسات دولة جديدة، وحديثة تنبع من مبادئ المواطنة والعدالة التاريخية وفقا لرؤية سياسية تسبق التقني. فكما أشار باولو فريري في "تعليم المقهورين"، فإن المعرفة ليست محايدة، والتعليم الذي يُمارس من فوق يعيد إنتاج السيطرة. وبالمثل، فإنّ "الخبرة التقنية والإدارية" التي تنطلق من المعامل والمكاتب المعزولة عن الميدان لا تصنع سلامًا ولا تبني دولة، لأنها تجهل نبض المجتمعات التي دفعت أثمان الحروب. المطلوب اليوم هو تكنوقراط ومتعلمون منحازون ينزلون من أبراجهم إلى الحقول والقرى والمخيمات، ليعيدوا تعريف الكفاءة بوصفها التزامًا بالعدالة، لا ولاءً للسلطة. فإدارة الدولة في هذه المرحلة لا تحتاج إلى وزراء ورؤساء ومديرين تقنيين، بل إلى عقول نقدية–تحريرية تربط بين الخبرة التقنية والوعي السياسي باللحظة التاريخية، بين الإدارة والكرامة الإنسانية. من يستطيع بناء جهازٍ مدنيٍّ يخدم الجميع بعدالة، هو من يفهم أن المؤسسات ليست آلات، بل أدوات ديناميكية ثورية لتحقيق المساواة والحرية - لبناء سودان جديد. لقد أثبتت تجارب التحول التاريخي — من جنوب إفريقيا بعد الأبارتهايد إلى رواندا بعد الإبادة وبوليفيا تحت قيادة إيفو موراليس — أن إعادة بناء الدولة لا تتم عبر "خبراء محايدين"، بل عبر مثقفين عضويين جمعوا بين العلم والالتزام الاجتماعي، ورفضوا أن يكونوا أدواتٍ بيد النخب القديمة. إنّ السودان، وقد بلغ لحظة التأسيس الفعلية من تخومه لا من مركزه، يقف اليوم أمام امتحانٍ معرفي–سياسي حاسم: إما أن يتحرّر العلم من وصاية الامتيازات القديمة، ويتحوّل المتعلّم السوداني إلى شريكٍ في هندسة دولة المواطنة العلمانية الديمقراطية اللامركزية؛ وإما أن يظل رهين البيروقراطيات التي تكرّر فشلها تحت لافتات "الخبرة" و"الحداثة" المزيّفة. لقد انتهى زمن الإصلاح من داخل الخرائب. فسودان المستقبل- السودان الجديد لا يحتاج إلى تقنيين يرمّمون جدران الدولة القديمة، بل إلى مثقفين عضويين يوحّدون بين الفكر والعمل، بين الكفاءة والتاريخ، بين المعرفة والتحرّر. إنّ واجب المرحلة لا يُقاس بعدد الشهادات ولا بالولاء للمركز، بل بالقدرة على تحويل المعرفة إلى فعلٍ تحرّريٍّ يعيد توزيع السلطة والمعنى. فإما أن ينحاز التكنوقراط السودانيون إلى حركة التاريخ ويندمجوا في مشروع تأسيس وطنٍ عادلٍ ومتعدّدٍ وحرّ، وإما أن يُسجَّلوا في ذاكرة الشعوب كحراسٍ جددٍ لمقابر السودان القديم.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة