تتمثّل الفكرةُ المركزية للمقال في أنّ بناءَ دولةٍ سودانيةٍ قابلةٍ للحياة يمرّ عبر احتكارٍ دستوري للقوة بيد جيشٍ قوميٍّ مهنيٍّ واحد، وعقدٍ سياسيٍّ تأسيسيٍّ يُغلّب المواطنة والعدالة واللامركزيّة. ويقترح النص طريقًا عمليًا يبدأ بإعلان مبادئ مُلزِم، وإصلاحٍ شامل لقطاع الأمن، وعدالةٍ انتقاليةٍ فعّالة، وبرنامجٍ اقتصاديٍّ منتِج يحوّل موارد الحرب إلى اقتصادِ سلام، مع تمكينٍ حقيقيٍّ للنساء والشباب، وخريطةِ طريقٍ زمنية تحقق هذه الأهداف خلال ثمانيةَ عشرَ شهرًا.
مدخل: صوتٌ يربط التجربة بالفكرة
أصاب عثمان فضل الله (المصدر: مجموعة مبادرة دارفور) حين التقط في خطاب ياسر عرمان جوهر اللحظة؛ إذ ربط بين التجربة والفكرة، لا بين الشعار والساحة. خلاصةُ عقودٍ من الحرب والانقسام تُفيد بأنّ الدولة لا تقوم بلا جيشٍ قوميٍّ مهنيٍّ واحد يحتكر القوّة وفق الدستور، وأنّ الانتقال لا يستقيم دون عقدٍ سياسيٍّ جامعٍ يؤسّس للمواطنة ويغلق أبواب الغلبة. هذه هي الخلاصة التي نكتبها وندافع عنها، وهي جوهرُ ما دعا إليه ياسر عرمان: قوّةٌ قوميةٌ مهنية تحمي الدولة والشعب بلا تهميش وتعيد بناء الشرعية على قاعدة الحقوق.
خلاصة التجربة (١٩٥٦–٢٠٢٣): دولةٌ تتعثّر لأن سلاحها مُبعثر
منذ الاستقلال في ١٩٥٦ دار السودان في حلقةٍ مُفرغة قوامها الانقلابات والشموليات التي أوقفت السياسة الدستورية ومنعَت تداول السلطة، وتسييسُ المؤسسة العسكرية والأمنية حتى تحوّلت إلى أداةِ صراعٍ داخلي بدل صيانة السيادة، واقتصادُ حربٍ غذّته الامتيازاتُ الريعية والتهريب وتجزئة الأسواق، وتفقيرُ الهامش مقابل مركزٍ يراكِم القرار، وتهميشُ النساء والشباب رغم أنهم وقودُ الثورات وضميرُها. وقد بلغت هذه الحلقة ذروتها في حرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣ التي كشفت أنّ التعدّد العسكري ليس تنوّعًا يحمي البلد، بل تشظٍّ يُفكّك الدولة ويقضم المجتمع.
معضلة تعدّد البندقية: دولةٌ بلا قرار
إنّ وجود جيشٍ مُسيَّس إلى جانب مليشياتٍ وقواتٍ موازية ينتج ازدواجًا في الشرعية وتضاربًا في أوامر القوّة، ويُضعف الثقة العامة ويفسح المجال لاقتصاد ظلٍّ يتغذّى على العنف ويقتل الإنتاج، ويقوّض العدالة الانتقالية لأنّ الفاعلين وحَمَلة المطالب يحملون السلاح سواءً بسواء. وبناءً عليه، فإنّ المعادلة واضحة: جيشٌ قوميٌّ مهنيٌّ واحد يعني دولةً واحدة ترعى جميع المواطنين، وما سواه ليس سوى إرجاءٍ لانهيارٍ أكبر.
ما الذي نعنيه بجيشٍ قومي مهني واحد؟
المقصود هو احتكارٌ دستوريٌّ للقوة تُحلّ بموجبه جميع التشكيلات المسلّحة أو تُدمج ضمن قانونٍ واحد وزمنٍ محدّد وتحت إشرافٍ مدنيٍّ مهني؛ وعقيدةٌ قتاليةٌ وطنيةٌ موضوعُها حمايةُ الدستور والحدود والمواطن لا خدمةُ حزبٍ أو قبيلة؛ وحَوْكَمةٌ للتسلّح والميزانية تُخضع القطاع الأمني لرقابةٍ برلمانيةٍ وقضائيةٍ وتدقيقٍ مستقل؛ ومسارٌ مهنيٌّ للخدمة قائمٌ على التأهيل والجدارة وتمثيلٍ عادلٍ للأقاليم والنوع الاجتماعي؛ وإعادةُ دمجٍ وتسريحٌ ترافقهما فرصُ العمل والمعاش والتعليم حتى لا تعود البنادق بأسماءٍ جديدة.
من السياسة إلى الدولة: ميثاقٌ ودستورُ تأسيس
المسألة ليست في مَن يحكم اليوم أو غدًا، بل في كيف نحكم. المطلوب ميثاقُ تأسيسٍ يُعرّف الدولة باعتبارها دولةَ مواطنةٍ وحقوق، ودستورٌ انتقاليٌّ تأسيسيٌّ يُقفل أبواب الشمولية ويُقنّن احتكار القوة ويعيد بناء السلطات على الفصل والرقابة المتبادلة، ومؤتمرٌ تأسيسيٌّ شاملٌ يعيد وصل الريف بالمدينة ويجبر الضرر ويُحدّث الاقتصاد ويُصالح المجتمع على حقيقة التعدّد اللغوي والثقافي، وعدالةٌ انتقاليةٌ فعّالة تكشف الحقيقة وتَجبر الضرر وتصلح المؤسسات لمنع التكرار.
اقتصادُ السلام: من تمويل الحرب إلى تمويل الحياة
لن يصمد جيشٌ مهنيٌّ واحد دون اقتصادٍ منتِج. لذلك نقترح تحويل موارد الحرب إلى اقتصادِ حياة عبر تجفيف اقتصاد الذهب والتهريب والريع المسلّح وإحالته للقانون والشفافية، وإنعاش القطاع الزراعي—بما يشمل المحاصيل والثروة الحيوانية والأسماك والغابات والموارد الطبيعية والمياه والري—سريعًا في مناطق العودة والنزوح بإجراءاتٍ قليلة الكلفة وسريعة الأثر تستند إلى المبادرات المجتمعية المحلية وحصاد المياه والمدخلات المُحسّنة وحماية المحاصيل والتمويل والتسويق وابتكار سلاسل القيمة المضافة الملائمة لكل إقليمٍ ومجتمع. وتتقدّم هنا سلاسلُ السمسم والصمغ العربي والكركدي والثروة الحيوانية والمحاصيل البستانية والسمكية والغاباتية بوصفها منصّاتٍ لتمكين النساء والشباب وربط المنتج بالأسواق، مع حوكمةٍ للموارد عبر أقاليمَ وولاياتٍ منتِجة ومجالسَ محليةٍ منتخبة بدل مراكز الاحتكار.
النساءُ والشباب: من هامش المشاركة إلى مركز القرار
بعد ديسمبر ٢٠١٨ وجدنا النساءَ والشباب الذين حملوا الثورة في مقدّمة المهمَّشين، وظلّ تمثيلهم أدنى من تضحياتهم. ومقتضى الإصلاح الجادّ أن تُعالج هذه الفجوة عبر ضمان تمثيلٍ انتقاليٍّ مُلزِم في السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتمكينٍ اقتصاديٍّ مباشر يقوم على التمويل الصغير وسلاسل القيمة الريفية، ومقاعدَ ثابتةٍ في مفوضيات العدالة والانتخابات والهيئات المستقلة.
خارطةُ طريقٍ عملية
تبدأ الخارطة بإعلان مبادئ واضح يثبّت احتكار القوة ويضع جدولًا مُحدّدًا لدمجِ التشكيلاتِ المسلّحة وحلّها، ويتزامن ذلك مع قانونٍ لإصلاح القطاع الأمني ينظّم القيادة والميزانية والرقابة المدنية. ويُستكمل المسار بوقفٍ إنسانيٍّ للقتال يرتبط بممرّاتٍ محمية ورقابةٍ مستقلة، وببرنامجٍ معاشيٍّ عاجل لِمئةِ يومٍ يركّز على المحاصيل الحقلية والبستانية والغابات والمياه والري في مناطق العودة الأولى، ثم يتقدّم نحو مؤتمرٍ تأسيسيٍّ يُقرّ الدستور الانتقالي وخريطة الانتخابات، وتبدأ العدالة الانتقالية بملفات الجرائم الكبرى مع حماية الشهود، وتتأسّس مفوضياتٌ مستقلة مبنيةٌ على مبادئ العدالة الانتقالية في مجالات الانتخابات ومكافحة الفساد والإعلام العام قبل أي اقتراع، وتُفَعَّل اللامركزية المالية بحيث تستعيد الأقاليم والولايات نصيبها من الإيرادات والقرار، وتُبنى شراكةٌ إقليميةٌ ذكيّة تُبقي السودان مستقلًا في قراره ومنفتحًا على مصالحٍ مشتركةٍ لا وصاية فيها.
كلمةٌ سواء — دعوةٌ لتوحيد الصفّ المدني
تحالفُ تأسيسِ السودان بيتٌ مفتوحٌ للأفكار الملتزمة الحرّة، وهو امتدادٌ لجهود «تقدّم» و«الصمود» وإرث مفكّرين راحلون مثل الدكتور جون قرنق ومعلّمين متقاعدين بسبب المرض مثل البروفيسور تيسير محمد أحمد، وإلى جانب من يقفون على جمرة القضية كالدكتور عبد الله حمدوك وياسر عرمان. إنّ إفشال الحرب العقائدية الكيزانية العنصرية التي بدأت في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ وشرّدت نحو ١٥ مليونًا بين لاجئٍ ونازح، وحَرَمت ١٧ مليون تلميذٍ وتلميذة وطالبٍ وطالبة من أصل ١٩ مليونًا من التعليم، وأفرغت العواصم من بنى الصحة والتعليم والخدمات وهدّدت ٢٥ مليونًا بالمجاعة، يتطلّب عقدًا مدنيًا جامعًا يُغلّب المواطنة والعدالة واللامركزية وينهي تعدّد البندقية ويعيد تعريف الدولة على أساس جيشٍ قوميٍّ مهنيٍّ واحد ودستورِ تأسيسٍ يضم الجميع. تعالوا إلى كلمةٍ سواء: لا غالبَ ولا مغلوب، بل وطنٌ يتّسع للجميع.
خاتمة: وطنٌ يُشبه الناس لا حكومةً بورتكيزان
لا نبحث عن مديحٍ لفلانٍ ولا ذمٍّ لعلّان؛ إنّنا نبحث عن وطنٍ ممكن. التجربة السودانية تُظهر بوضوح أنّ الجيوش المتناحرة والشرعيات المتعدّدة وخطابات التقسيم لا تُنتج دولة، وأنّ الطريق الواقعي يبدأ بدستورٍ تأسيسي وجيشٍ مهنيٍّ واحد واقتصادٍ يموّل الحياة لا الحرب. هذه هي خلاصة تحالف تأسيس السودان: الخروج من الاصطفافات الضيّقة إلى عقدٍ جديدٍ يُنهي الحلقة المفرغة منذ ١٩٥٦ ويحوّل تضحيات السودانيات والسودانيين إلى دولةٍ عادلةٍ قابلةٍ للحياة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة