منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، ظل الخطاب السياسي للأحزاب مرآة صافية تكشف عمق أزمتها البنيوية. فالصراع المسلح الذي بدأ بين الجيش وقوات الدعم السريع لم يكن مجرد معركة عسكرية بل تحول سريعاً إلى اختبار حقيقي لقدرة القوى السياسية على تجاوز الانقسامات الضيقة وصياغة رؤية وطنية جامعة. والنتيجة للأسف: خطاب مرتبك، متناقض، ومفتقر للبوصلة. تعدد الخطابات وتضاربها يمكن القول إن المشهد الحزبي انقسم إلى ثلاثة أنماط رئيسية خطاب تعبوي وتحريضي تبنته القوى الإسلامية وحلفاؤها، ركّز على “معركة الوجود” و“الحرب على التمرد”، مستخدماً لغة مشحونة غذّت الاستقطاب. خطاب تسوية ومصالحة حاولت قوى الحرية والتغيير وحزب الأمة التمسك به، لكنه ظل ضعيف التأثير ومتأرجحاً بين الخارج والداخل. خطاب أيديولوجي مغلق مثله الحزب الشيوعي وبعض قوى اليسار، إذ حصر الحرب في كونها صراعاً بين الإسلاميين والعسكر، رافضاً أي تدخل خارجي. هذه التعددية لم تكن علامة غنى سياسي، بل انعكاساً لعجز عن إنتاج خطاب وطني جامع. إرث الاستقطاب القديم لا جديد تحت الشمس. فالخطاب الحالي يجد جذوره في تاريخ طويل من الانقسام: الإسلاميون رسخوا خطاب التعبئة الهوياتية منذ التسعينيات. اليسار ظل أسير سردية مقاومة التدخل الخارجي. الأحزاب الطائفية تلاعبت بمفردات التوازن لكنها لم تنتج مشروعاً عملياً. حتى بعد ثورة 2019، ظل الخطاب الإقصائي سيد الموقف: “نحن أصحاب الثورة وأنتم أعداؤها”، و“أنتم خصوم الديمقراطية ونحن حراسها”. من الإنكار إلى الاستنزاف مرّ الخطاب الحزبي خلال الحرب بثلاث مراحل واضحة - مرحلة الإنكار (أبريل – يوليو 2023): تعاملت الأحزاب مع الحرب كحدث عابر يمكن احتواؤه. مرحلة الشرعنة والتبرير (أواخر 2023 – منتصف 2024): كل طرف بدأ يصوغ سردية تمنحه الحق والشرعية. مرحلة الاستنزاف (منتصف 2024 – 2025): تلاشى الحديث عن حلول سياسية، وحل مكانه خطاب تعبوي يومي يكتفي بإلقاء اللوم على الآخرين. ازدواجية وضبابية خطاب الأحزاب كشف تناقضاتها الداخلية أكثر مما كشف قوتها:
حزب الأمة تحدث بلغة دبلوماسية موجهة للخارج، لكنه في الداخل اقترب من خطاب الجيش.
الحزب الشيوعي تمسك برفضه المطلق للحوار، فوجد نفسه معزولاً.
القوى الإسلامية استعانت بالرموز الدينية لتبرير استمرار القتال.
الحركات المدنية رفعت خطاباً حقوقياً أنيقاً للخارج، لكنه بقي نخبوياً وضعيف الحضور في الداخل. خطاب يغذي الانقسام الأثر المباشر لهذا الخطاب كان واضحاً وتعميق الشرخ الاجتماعي في مناطق النزاع. تحويل وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة حرب موازية بالخطاب. إضعاف ثقة الشارع في الأحزاب، إذ بدا خطابها بعيداً عن هموم الناس اليومية من نزوح وجوع وانعدام خدمات. نحو خطاب وطني جامع إذا أردنا الانتقال من خطاب الحرب إلى خطاب السلام، فالأمر يتطلب خطوات عملية - مراجعة نقدية شجاعة للخطاب القائم، مع آليات مساءلة سياسية ومجتمعية. بناء خطاب وطني يضع حماية المدنيين ووقف الحرب فوق أي اعتبار أيديولوجي. إشراك الفئات المهمشة – النازحين، النساء، الشباب – في صياغة الخطاب الجديد. تفعيل الإعلام والمثقفين لتصويب الخطاب السياسي وإبعاده عن الشعارات الفارغة. من خطاب الحرب إلى خطاب المواطنة الحرب في السودان لم تكن مجرد أزمة عسكرية؛ إنها أزمة خطاب أيضاً. فبدلاً من أن يكون الخطاب السياسي أداة لحل الأزمات، صار وسيلة لتغذيتها. والسؤال المطروح اليوم هل تستطيع الأحزاب أن تعيد النظر في نفسها لتصوغ خطاباً يوحد السودانيين، أم أن المجتمع المدني والشباب سيضطرون لملء هذا الفراغ؟ ما هو مؤكد أن تطوير خطاب وطني جامع لم يعد ترفاً فكرياً، بل صار شرطاً وجودياً لبقاء السودان نفسه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة