تكافؤ القوى في العلاقات الدولية ( قراءة في المشهد السوداني الراهن ) كتبه مها طبيق

تكافؤ القوى في العلاقات الدولية ( قراءة في المشهد السوداني الراهن ) كتبه مها طبيق


09-26-2025, 02:49 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1758894566&rn=0


Post: #1
Title: تكافؤ القوى في العلاقات الدولية ( قراءة في المشهد السوداني الراهن ) كتبه مها طبيق
Author: مها الهادي طبيق
Date: 09-26-2025, 02:49 PM

02:49 PM September, 26 2025

سودانيز اون لاين
مها الهادي طبيق-Sudan
مكتبتى
رابط مختصر




يُعد مفهوم تكافؤ القوى أو ( Balance of Power ) من الركائز الأساسية في النظرية الواقعية للعلاقات الدولية . فمنذ صلح ويستفاليا وحتى مرحلة الحرب الباردة ظلّ هذا المفهوم حاضرا لتفسير صعود الدول وسقوطها ، وكذلك لفهم طبيعة التحالفات والاصطفافات بين القوى الكبرى .

لكن التطورات الأخيرة في النظام العالمي ، ومع تراجع الأحادية القطبية الأميركية وبروز ملامح تعددية قطبية جديدة ، كشفت أن الندية الحقيقية لا تُبنى بالقوة الصلبة وحدها ، وإنما بالحوار القائم على الاعتراف المتبادل بالمصالح . وفي هذا الإطار ، يظهر السودان مثالًا حيّا لصراع النفوذ الدولي ومختبرا عمليًا لإشكالية غياب التكافؤ في الممارسة السياسية .

فمن الناحية النظرية ، يرى الواقعيون أنّ استقرار النظام الدولي يتحقق من خلال توازن الردع بين القوى الكبرى ، بينما يعتقد الليبراليون أنّ الحوار المؤسسي والقانون الدولي يوفران بديلًا أكثر ديمومة . أما على أرض الواقع ، فقد أثبتت التجارب أنّ الهيمنة القسرية تفرض خضوعًا مؤقتًا لكنها لا تخلق شرعية دائمة ، إذ يسعى الطرف الأضعف دومًا لتقوية قدراته أو بناء تحالفات جديدة لتعديل الكفة . لذلك فإن التكافؤ القائم على الحوار يبدو أكثر فاعلية من الإخضاع بالقوة ، لأنه ينتج استقرارًا طويل المدى قائمًا على الشرعية لا على الإكراه .

هذا المنطق ينعكس بوضوح على المشهد السوداني . فالسودان اليوم ساحة مفتوحة لمصالح متعارضة . الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يركزان على ملفي البحر الأحمر والهجرة غير النظامية ، ما يجعل موقفهما متأرجحا بين العقوبات والدفع نحو الحوار . روسيا من جانبها تسعى لترسيخ وجود بحري دائم في بورتسودان ، بينما ترى الصين في السودان محطة مهمة ضمن مبادرة ( الحزام والطريق ) . أما السعودية والإمارات ومصر فلها حسابات استراتيجية مختلفة لترسيخ نفوذها ، سواء عبر وكلاء محليين أو تفاهمات مباشرة مع أطراف الصراع . هذه التعددية جعلت من السودان ميدانا للتنافس ، في وقت تفتقد فيه القوى المحلية القدرة على فرض معادلة مستقرة بالقوة وحدها ، ما يجعل الحوار المتكافئ ضرورة لا خيارا .

لكن التحدي الأكبر يظل داخليًا . فالانقسام بين الجيش والدعم السريع ، وغياب إطار سياسي جامع ، أدخلا السودان في المعادلة الدولية ضعيفا ومفتّتا. هذا التفكك عزّز الارتهان للخارج ، إذ تعاملت الفصائل مع القوى الدولية كسند لتحقيق تفوق مرحلي على الخصم ، من دون إدراك أنّ ذلك يضعف الموقف الوطني في مجمله . النتيجة كانت غياب الندية التفاوضية أمام القوى الكبرى ، وفتح الباب أمام حلول تُفرض من الخارج وتعيد إنتاج التبعية .

الحوار في الحالة السودانية لا يعني فقط تسوية بين طرفي الصراع العسكري ، بل يتطلب أولًا بناء إطار داخلي موحد يجمع القوى المدنية والمجتمعية والفصائل المسلحة المعتدلة في وثيقة تفاوضية مشتركة . كما يتطلب تحالفات ذكية تستفيد من التنافس الدولي لمصلحة السودان ، عبر وضع شروط واضحة لأي دعم أو استثمار . وإلى جانب ذلك ، يحتاج السودان إلى خطاب استراتيجي جديد يقدمه كشريك مسؤول ، بما يعزز من شرعية موقفه التفاوضي .

مستقبل السودان يمكن أن يتجه نحو ثلاثة سيناريوهات. الأول هو استمرار الإخضاع بالقوة عبر وكلاء إقليميين ، وهو ما يعني استمرار النزيف وفقدان السيادة . الثاني هو خيار الحوار المتكافئ ، عبر توحيد الجبهة الداخلية وطرح مبادرة وطنية شاملة مدعومة بضمانات إقليمية ودولية ، ما يحوّل السودان من موضوع للتنافس إلى طرف فاعل في التفاوض . أما الثالث فهو سيناريو الجمود ، حيث لا يُحسم الصراع عسكريًا ولا تفاوضيا ، فيدخل السودان مرحلة ( المنطقة الرمادية ) التي تُدار بتحالفات مرحلية .

لذلك إن تكافؤ القوى في العلاقات الدولية يجب أن يقوم على الحوار المؤسسي الذي يعترف بالمصالح المشتركة ويحوّلها إلى عقود سياسية شرعية وليس إعتمادا على القوة فقط . بالنسبة للسودان ، فإن الطريق للخروج من أزمته يبدأ بإعادة بناء الداخل وصياغة موقف تفاوضي موحد ، واستثمار التنافس الدولي لصالح التنمية والسيادة بدلاً من الارتهان للأجندات الخارجية . وفي هذا السياق ، يبرز ( تحالف التأسيس ) كجسم شرعي قادر على صياغة مشروع وطني جامع يضع السودان في موقع الفاعل لا المفعول به ، ويفتح الباب أمام عقد وطني جديد يقوم على السيادة السودانية الخالصة – سوداني / سوداني – بعيدًا عن الوصاية الأجنبية .

إن الرسالة الجوهرية لأي مسار تفاوضي يجب أن تكون واضحة المعالم : السودان ليس موضوعًا للتقسيم أو الهيمنة ، بل كيان سيادي يُعاد تأسيسه من الداخل بإرادة وطنية حرة ، لتكون شراكاته الخارجية امتدادًا لقراره الوطني لا بديلًا عنه .

مها الهادي طبيق
26 سبتمبر 2025

[email protected]