في بلد أنهكته الحرب وأفقدته ما تبقى من تماسك مؤسسات الدولة، يطل علينا مشهد جديد من مشاهد العبث: الفساد وقد تمدد داخل الجهاز المفترض أن يكون حارس النزاهة والشفافية – ديوان المراجعة الداخلية. المفارقة الصادمة أن الجهة المكلّفة بمراجعة حسابات الدولة وحماية المال العام، تحولت إلى منصة لصناعة أثرياء الحرب الجدد.
تقود الديوان اليوم الدكتورة هاجر محمد أحمد، التي سرعان ما أحاطت نفسها بدائرة صغيرة من الموظفين المقرّبين، لتفتح لهم أبواب الامتيازات على مصراعيها. صرفت لهم "إعاشة شهرية" تتراوح بين 5 مليارات و1.8 مليار بحسب الدرجة الوظيفية إلى جانب الحوافز والبدلات والسفريات، بينما يعاني بقية الموظفين في الأقاليم من ضنك العيش وشح المرتبات، في مفارقة تجسد أبشع صور الظلم المؤسسي.
الأخطر أن أول إنجاز للمديرة كان إعادة موظفين سبق أن أُدينوا في فضيحة الحوافز بالشركة السودانية للموارد المعدنية، تلك الفضيحة التي ارتبطت بالمدعو أردول، أحد رموز النهب في قطاع المعادن. بدلاً من أن يكونوا عبرة لغيرهم، تمت إعادتهم بقرار فوقي، ليؤكد أن معركة مكافحة الفساد مجرد وهم.
لكن الملف لم يقف عند هذا الحد. فبحسب المعلومات، هناك عناصر من مليشيا الجنجويد تم زرعهم داخل الديوان نفسه، وبعضهم يتولى إدارات كاملة تحت حماية المديرة، في استباحة صريحة لواحدة من أهم مؤسسات الدولة المالية. أما ما ظهر في حسابها الشخصي من مبالغ ضخمة، إضافة إلى شراء منزل فاخر في ولاية النيل الأبيض، فقد دفع الأجهزة الأمنية – ولو مؤقتاً – إلى استدعائها للتحقيق.
القضية هنا ليست مجرد تجاوزات مالية، بل منظومة فساد متكاملة تضرب في العمق فكرة الدولة ذاتها. كيف يمكن أن نثق في مؤسسات تشرعن النهب بدلاً من مراجعته؟ وكيف لشعب يُطلب منه الصبر على الجوع والفقر أن يصمت على توزيع المليارات كإعاشة لمجموعة محدودة، بينما دماء الأبرياء لم تجف بعد من شوارع الخرطوم ودارفور وكردفان؟
ما يجري في ديوان المراجعة الداخلية ليس حادثة معزولة، بل مرآة لحالة السودان اليوم: دولة مخترقة، سلطتها غارقة في الفساد من رأسها حتى أخمص قدميها، ومواطن مسلوب الحقوق بلا حماية. كشف هذه الملفات ليس غاية في ذاته، بل محاولة لتعرية الوجه القبيح لمن يصنعون ثراءهم على ركام الوطن. فالمعركة الحقيقية تبدأ حين يدرك الناس أن المحاسبة لن تأتي من داخل السلطة، بل من وعي عام يرفض التطبيع مع الفساد ويكسر صمت الخوف.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة