لم يكن الخطاب الأول لرئيس الوزراء المعيَّن، محمد حسن التعايشي، مجرد إخفاق بلاغي أو عثرة أسلوبية، بل بدا انعكاسًا لواقعية سياسية باردة تفرضها إكراهات مرحلة "تأسيس". فالخطاب، بعيدًا عن التوقعات الثورية، جاء كوثيقة سياسية تراعي معادلات القوى المحلية والإقليمية والدولية، أكثر من كونه بيانًا تأسيسيًا يعلن ميلاد الدولة الجديدة. الواقعية السياسية ما لم يُقَل أهم مما قيل من منظور الواقعية السياسية، التي ترى الفاعلين يسعون لتعظيم مصالحهم في بيئة فوضوية، فإن ما غاب عن الخطاب أهم مما ورد فيه. غياب الإعلان الصريح عن الدولة العلمانية: لم يكن ضعفًا، بل حسابات دقيقة. فالإعلان عن علمانية الدولة منذ اليوم الأول كان سيضع حكومة "تأسيس" في مواجهة مباشرة مع قوى إقليمية نافذة تخشى أي مشروع ثوري يُربك معادلة الاستقرار التقليدية. الغموض الاستراتيجي في مرحلة هشة كهذه، قد يكون الغموض وسيلة للبقاء. فهو يسمح بتحالف "تأسيس" – بما يحويه من تيارات متباينة – بالتماسك، ويترك هامشًا للمناورة السياسية دون إرباك الحلفاء. فجوة الطموح الثوري وواقع الإكراهات الخطاب كشف عن الفجوة بين ما تنتظره الجماهير من مشروع ثوري، وما تراه النخبة الحاكمة ممكنًا في لحظة التأسيس. الأمن والاقتصاد أولًا: لا مجال للحديث عن العدالة التاريخية أو الدستور العلماني في ظل انهيار اقتصادي شامل وتهديدات عسكرية مستمرة. لذلك ركّز التعايشي على الأمن وإنعاش الاقتصاد باعتبارهما شرطَي بقاء الدولة نفسها. العدالة الانتقالية كأداة لا كشعار: منطق الواقعية يفرض التدرج. فالمطالبة بعدالة تاريخية شاملة في خطاب أولي أقرب إلى الخيال، في ظل مؤسسات قضائية وعسكرية ما زالت ترفض محاسبة ذاتية قد تهدد بقاءها. تجارب مثل جنوب أفريقيا أثبتت أن العدالة الانتقالية كانت دائمًا صفقة سياسية، لا وعدًا بالمحاسبة الكاملة. من الخطاب إلى الصناعة السياسية التركيز على خطابات رمزية لن يغيّر الواقع. المطلوب الآن- تثبيت المبادئ في الدستور- المعركة الحقيقية ليست على المنابر، بل في نصوص دستورية واضحة تكرّس العلمانية، اللامركزية، والمواطنة المتساوية. بناء تحالفات إقليمية ذكية- على حكومة "تأسيس" أن تسوّق مشروعها بلغة المصالح الأمنية والاقتصادية للجوار والعالم، لا بلغة الشعارات الثورية فقط. إستراتيجية التدرج- التغيير التراكمي عبر خطوات صغيرة (قوانين، إصلاحات، رموز) هو الطريق الواقعي لبناء دولة جديدة، لا الصدمات الكبرى. بين القيود والفرص
خطاب التعايشي لم يكن خيبة أمل بقدر ما كان إعلان نية واقعيًا. لقد أشار بلغة السياسة إلى أن التأسيس لن يكون ثورة مكتملة الأركان، بل عملية سياسية معقدة، محكومة بمساومات وإكراهات محلية وإقليمية. التحدي اليوم أمام القوى الثورية هو ألّا تترك الحكومة وحدها في هذا المسار، بل أن تستخدم الشارع والمجتمع المدني والدبلوماسية الموازية للضغط باتجاه ترسيخ مبادئ السودان الجديد. فالانتقال من الشعار إلى الصناعة السياسية الدقيقة هو الامتحان الحقيقي: إما أن يُعاد إنتاج إرث الفشل، أو يُكتب فصل جديد من تاريخ الدولة السودانية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة