منذ سقوط نظام عمر البشير في أبريل 2019، يعيش السودان بجرعات محددة من السكين البوتيكي، مسكنات المستهلك ما يزال لا يصنع شفاءً، فيما بعد يتسع خدمة تترنح. فالسودانيون لم يبرحوا دائرة الانتظار. فالأمل الذي سوقه مختلع فجأة سيأتي قريبا ما انطفأ تحت ركام فشلهم في السياسة، حتى غدا العام متخماً بالخذلان. ليست المشكلة في الكونكريت وحدها، بل في عقلية التحكم التي واجهتها: عقلية تداوي الجروح بالمسكنات، وتؤجّل القرارات الحاسمة، وتظن أن الوقت وحده قادر على إصلاح ما تفسده أسس الدولة. وكما في الطب، فإن تسكين الألم قد يشتري راحة مريحة، لكنه لا ينقذ المريض من شراء العلة.
وساعد أكثر ما يضاعف مرارة العمل التي تعتمد على القوى العاملة التي تقدمت إلى المنصة بعد تغيير نظام الحكم، متقاربة في النتيجة لاسيما الحاضنة السياسية لحكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك.
رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، الرجل الذي وجد نفسه ممسكاً بمفاتيح خدمة الجيش، تم اختياره منذ البداية طريق الموازنة وربما يتردد، فآثر مساكنة قائد التمرد الحالي ب(حميدتي)، ومدّ عمر التناقض بدل أن يطويه. لقد كان في متناول اليد أن نفترض رؤية إعادة هيكلة القوات المسلحة وأن ينزع فتيل ازدواجية الأسلحة قبل أن يتم البناء، ولكن استسلم لمنطق المراوغة، حتى جاء سريعاً في عام 2023 كاشفاً أن الزعامة تقرر بلا مهمة إلا أنها ليست سوى إدارة مؤقتة.
واليوم وفي ظل المؤثرات القاسية للحرب ارتدى رئيس الوزراء الجديد كامل إدريس، عملية الإصلاح السريع والخطاب الرشيق. أصبحت لغة الوصول إلى شبكة الإنترنت مفيدة للغاية، غير أنها أصبحت حديثة في الهواء، ويصل إلى الإرهاصات أو المعدات النشطة. هو أشبه بطبيب يكذب وصفة مكتوبة بدقة، لكن دون مختبر أو فريق أو حتى دواء حقيقي في صيدلية خاوية. بدا أن مشروعه إصلاحي أكثر، يراهن على الكلمات أكثر مما يراهن على الحقائق، وعلى اللسان أكثر مما يراهن على القدرة. وهكذا، لم يجد فيه الشارع ما يُشبع جوعه، فرآه يمتد طويلاً لسياسة «إرجاء العلاج» وإذا كان خفيفًا مطمئنًا.
غير أن ذلك التشابه الأعمق بين الرجلين (البرهان وكامل) – بل بين المتميزين السودانيين – هي تلك المحسوبية التي تحوّل الموازنة بين التناقضات إلى عقيدة سياسية. عقلية ترى في تجنب الخسارة الكبرى حلاً، وفي شراء الوقت المهم، وفي تردد حكمة. لكنّ الفرق بين الدائمين، حين يتحول إلى الحزب الديمقراطي، لا يقود إلا إلى شلل، بل إلى انفجارات أكبر من قدرة الجميع على السيطرة عليها. إنها ذهنية تتقن إدارة الفكرة العظيمة تعجز صناعة المستقبل، تتفادى المواجهة المجهولة لا تُعِد بديلًا، وتبني على رمال متحركة لتتمكن من تحت الأرجل.
يوم اتصال السودان في لحظة لا تحتمل ترف المماطلة. الحرب، الاقتصاد الداخلي، تفكك الدولة، كلها تنذر أن المسكنات لم تعد تجدي. الرأي العام تجده يضجر، واحتياطي الصبر الشعبي يكاد ينفد. ومع ذلك، يبقى في الأفق بصيص أمل: في جيل شاب يرفض إعادة إنتاج الماضي، وفي نخبة فكرية تؤمن بأن الطريق إلى الشفاء يبدأ بجراحة جذرية لا بتسكين عابر.
لن يكون علاج السودان إلا ببتر الأسباب: كسر شوكة خارج إطار الدولة، يفترض إصلاح تأثيرها بشكل حقيقي، وفعلا لا تتدخل أمام اللحظة. فالوطن، مثل جسد المريض، لا ينهض بالمسكن ولا بالتخدير المؤقت. لا بأس من مواجهة الألم، لا رحيله، ومن اجتثاث المرض الأصلي، لا العلاجي.
لقد ملّ الزمن السوداني من قيادات تراهن على بدل النظر، وعلى التساهل بدل القرار، وعلى الكلام بدل البصر. وما بين البرهان وكامل إدريس يتجلى الدرس الفادح: أن يتحمل المسؤولية ليست لذلك، وأن الزعامة تعلم لا تُقاس بقدرة الدرجات على التميز بين خصمين، بل وقدرته على فرض مسار جديد لا يترك أحدا إلا أن يلتحق به. السودان اليوم يحتاج إلى تخطيط كجراح، لا كصيدلية توزع حبوب التخدير. ذلك فقط ما يفتح باب الأمل على مصراعيه، ويمنح شعباً متعباً ما يستحقه من شفاء.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة