يوم آخر ينزف فيه السودان. يوم يضاف إلى دفتر الجراح الذي لم يجف منذ الاستقلال، كأنما هذا الوطن كُتب عليه أن يعيش ممزقاً، مطعوناً بسكاكين أبنائه قبل أعدائه. ما جرى في نيالا ليس مجرد معركة عسكرية بين قوتين متصارعتين، بل هو فصل جديد من مسلسل الإقصاء الذي ظلّ سمة السياسة السودانية لعقود طويلة. مرة أخرى يُبتر جزء من جسد الوطن، ومرة أخرى ندفع جميعاً ثمن عقلية واحدة لا تعرف سوى الإقصاء والاستئثار: عقلية الكيزان. منذ أن تسللت الحركة الإسلامية إلى قلب الدولة، لم تعرف البلاد الاستقرار. لم يكن همّها بناء وطن يسع الجميع، بل تفصيل وطن على مقاس مشروعها وحدها. ألغت التنوع، همّشت المخالف، أقصت كل من لا ينتمي إليها، حتى صنعت بيئة مكتظة بالغبن والكراهية والانفجار. الكيزان لم يتركوا شيئاً إلا دمّروه: من الجيش إلى الخدمة المدنية، من الاقتصاد إلى التعليم، من النسيج الاجتماعي إلى وحدة التراب. وها نحن اليوم ندفع الفاتورة. صراعهم على السلطة، وتمسكهم المرضي بالهيمنة، جرّ السودان إلى هذا الدمار. صحيح أن الحرب الحالية أطرافها متعددة، لكن لا يمكن إنكار أن جذورها نبتت في تربة الإقصاء التي زرعها الإسلاميون. كل من حمل السلاح اليوم، كل من تمرد أو انقسم، خرج من رحم سياساتهم أو كرد فعل على ظلمهم. جاءت ثورة ديسمبر كأمل جديد، كصرخة لإنهاء حقبة الكيزان، لكن حتى هذه الثورة حاولوا سرقتها. دسّوا رجالهم في مفاصل الدولة، أشعلوا الانقسامات، وأغرقوا الساحة في الفوضى حتى لا ينهض السودان من تحت ركامهم. وما نراه اليوم ـ من تحالفات عابرة ـ ما هو إلا انعكاس لذلك الخراب العميق. لكن وسط كل هذا الضياع، تبقى الحقيقة واضحة: الكيزان هم أصل المصيبة. هم من أشعلوا أول شرارة، وهم من زرعوا بذور الكراهية، وهم من أسسوا دولة الإقصاء التي جعلت الآخر لا يرى أمامه سوى السلاح. المأساة أن المواطن العادي، الضحية الدائمة، وجد نفسه مرة أخرى بين مطرقة الاسلامين وسندان الفقر والجوع. ومع ذلك، لا يمكن إعفاء جزء من الشعب من مسؤوليته حين باع صوته أو اصطف وراء جلاده طلباً لفتات مصلحة شخصية. لكن تبقى المسؤولية الأكبر على عاتق الحركة الإسلامية التي لم تؤمن يوماً بالسودان كوطن للجميع، بل كغنيمة حلال لمن ينتمي لمشروعها. واليوم، كل دم يُسفك، وكل مدينة تُحرق، وكل طفل يُهجّر، له صلة مباشرة بذلك الإقصاء الذي مارسه الكيزان على مدار ثلاثة عقود. ما حدث في نيالا ليس نهاية، بل بداية لمزيد من التشظي، ما لم ندرك الحقيقة: لن يقوم لهذا الوطن قائمة ما لم يُكسر مشروع الإقصاء، وما لم يُدفن ميراث الكيزان إلى الأبد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة