من وثيقة تحرير الرقيق إلى ميثاق التأسيس: (1and2)قراءة في الوعي والتحرر بين تجربة حركة الحقوق المدنية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 09-01-2025, 01:29 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-31-2025, 01:45 PM

خالد كودي
<aخالد كودي
تاريخ التسجيل: 01-01-2022
مجموع المشاركات: 133

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
من وثيقة تحرير الرقيق إلى ميثاق التأسيس: (1and2)قراءة في الوعي والتحرر بين تجربة حركة الحقوق المدنية

    01:45 PM July, 31 2025

    سودانيز اون لاين
    خالد كودي-USA
    مكتبتى
    رابط مختصر



    من وثيقة تحرير الرقيق إلى ميثاق التأسيس:
    (1and2)قراءة في الوعي والتحرر بين تجربة حركة الحقوق المدنية الأمريكية وتجربة الهامش السوداني

    31/7/2025 خالد كودي، الأراضي المحررة

    لم تكن الثورات عبر التاريخ مجرّد تمرّدات على أنظمة حكم قائمة، بل كانت دومًا مواجهات جوهرية مع بنى الهيمنة ومصادر الخوف المتجذّرة في البنية العميقة للمجتمع. فالنخب الحاكمة لا تعارض التغيير بسبب جهلها به، بل لأنها تدرك تمامًا أن أي مشروع تحرّري حقيقي يهدّد امتيازاتها، ويضع موقعها في قمة الهرم موضع مساءلة وزعزعة. فالتحرّر، في جوهره، لا يعني فقط كسر القيود، بل يعني التخلي عن موقع السيادة، ومغادرة موضع "السيد" الطارد للآخر. ولهذا، حين يواجهون مشروعًا جذريًا للانعتاق، كثيرًا ما تختار هذه النخب البقاء في قفص النظام القديم، مبرّرين ذلك بـ"الواقعية"، وهاجمين الثورة باسم "العقلانية."
    تنطلق هذه الورقة من قراءة تاريخية–تحليلية لمسارات التحرّر والوعي، من خلال تجربتين مركزيتين: حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة التي انبثقت بعد قرون من العبودية والعنصرية البنيوية، والسيرورة الثورية للمهمشين في السودان، كما تتجلى اليوم في مشروع "الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال" وتحالف "تأسيس". وبين لحظتين تأسيسيتين – إعلان تحرير العبيد الذي وقّعه أبراهام لنكولن في الأول من يناير 1863، وميثاق تأسيس السودان الجديد الموقع في فبراير 2025 – تتشكل جدليات عميقة تعيد تعريف مفهوم "الحرية"، لا بوصفها شعارًا مجردًا، بل كقوة زلزالية تزلزل بنى الماضي وتفتح أفقًا مغايرًا للمستقبل.
    المفارقة أن من يُعرض عليهم مشروع التحرّر قد يكونون أول من يقاومه؛ لا لأنهم يجهلونه، بل لأنهم مشدودون نفسيًا وسياسيًا إلى منظومات الهيمنة التي نشأوا في كنفها. ومن هنا، فإن المقال لا يكتفي برصد التشابهات البنيوية بين التجربتين الأمريكية والسودانية، بل يغوص في البعد النفسي–السياسي لرفض النخب السودانية لانعتاق هي نفسها في أمسّ الحاجة إليه. هذا الرفض، الواعي أو اللاواعي، لا يمنعها لاحقًا من محاولة نسب المشروع التحرّري لنفسها، حين تبدأ معالم نجاحه في التشكّل، تماما كما تنسب الثورات اليها.
    إن تفكيك هذا التناقض البنيوي هو مدخل لفهم اللحظة الثورية التي يمر بها السودان اليوم. ولهذا، يستند المقال إلى دراسات التاريخ، ونظريات التحرر، وتحليلات علم النفس الاجتماعي، في محاولة للإجابة على سؤال مركزي: لماذا يخاف بعض الناس حريتهم؟

    أولًا: العبودية كمنظومة للحرمان المعرفي – الجذور النفسية والاجتماعية للتهميش
    لم تكن العبودية في الولايات المتحدة مجرد ممارسة اقتصادية لتسخير الجسد البشري، بل كانت نظامًا متكاملًا لإعادة تشكيل الإنسان نفسه: وعيه، معرفته، تصوره لذاته وللعالم. جرى تجريد ملايين الأفارقة المستعبدين من حقهم في التعليم، ومنعوا من القراءة والكتابة، وقُيّدت حركتهم داخل جغرافيا ضيقة لا تتجاوز المزارع القطنية. في هذا الحيز المحدود، كانت إرادة السيد هي مصدر القانون والمعرفة والمعنى، وكان الجهل وسيلة منهجية لضمان الطاعة، لا نتيجة عرضية.
    لقد شُيِّد نظام العبودية على قمع الوعي قبل استعباد الجسد، وتمّت برمجة الأفراد على الخضوع، وتجفيف أي نبع فكري يمكن أن يروّج لفكرة التمرّد. فالجهل لم يكن نقصًا في الحقوق فحسب، بل كان أداة سياسية للسيطرة.
    حين أصدر الرئيس أبراهام لنكولن وثيقة تحرير الرقيق في 1 يناير 1863، بدت تلك اللحظة وكأنها إعلان قطيعة مع قرون من الاستعباد. لكنها سرعان ما كشفت هشاشة التحرر القانوني في مواجهة آثار الترويض الطويل. آلاف المستعبَدين، حين بُشّروا بحريتهم، لم يعرفوا إلى أين يمضون: لا مال، لا تعليم، لا تصور عن الحياة خارج عالم المزرعة. كثير منهم عادوا طوعًا إلى أسيادهم السابقين، لا حبًا بل بدافع الخوف، والفراغ، والارتباك الوجودي. فحرية بلا أدوات للعيش والوعي، قد تكون عبئًا لا يُحتمل.
    وقد وصف المفكر فرانز فانون هذه الظاهرة في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، مؤكدًا أن تحرير الجسد لا يكفي إذا ظل الوعي مسجونًا. فالمُستعمَر، حين يُقنعه المستعمِر بأن الحرية خطر، يتبنى قهره كقدر. إنها حالة الاستلاب الداخلي (internalized oppression)
    حيث تُصبح البنية القمعية جزءًا من إدراك الذات، ويغدو الظلم هو النظام الوحيد الذي يشعر الإنسان بالأمان داخله.

    انعكاسات هذه البنية في الواقع السوداني – حين تُخشى الحرية
    ليست هذه التجربة حكرًا على التاريخ الأمريكي؛ إنها تتكرر في الواقع السوداني، لكن بصيغة سياسية ومعرفية مختلفة. فالنخب المدنية والعسكرية، التي تربّت داخل منظومة الدولة المركزية وموقع الامتياز، تجد صعوبة في مغادرة هذه البنية، حتى حين تُعرض عليها فرصة إعادة التأسيس على أسس العدالة والمساواة.
    مشروع "تأسيس"، بوثيقته ودستوره الانتقالي، لا يمنح النخب سلطة عليا، بل يدعوها إلى الشراكة والمساءلة، إلى الانخراط في نظام يساوي بين الجميع، بلا امتيازات مسبقة ولا وصاية فوقية. هذا العرض، رغم عدالته الظاهرة، يبدو مهددًا لمن اعتاد التربّع على مركز القرار، ولمن تشكّل وعيه داخل عالم سياسي لا يرى الآخر إلا كطرف هامشي.
    إن مقاومة هذا المشروع ليست عقلانية كما يُروّج لها، بل نفسية–اجتماعية، تشبه تمامًا مقاومة العبيد السابقين للانعتاق. هي مقاومة لما لا يمكن تخيّله: عالم بلا تفوّق، سلطة بلا احتكار، حرية تستدعي مسؤولية. إنها مقاومة للتحرر حين يُطلب من المهيمن أن يتنازل، لا من المهمَّش أن ينتزع.
    وهنا يتجاوز دور الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وتحالف "تأسيس"، مجرد كونهما مشروعين سياسيين، ليصبحا مشروعًا للتحرير المعرفي والنفسي، يعيدان تعريف معنى الانتماء والسلطة والمواطنة. لا تسعى هذه القوى فقط إلى اقتسام السلطة، بل إلى تفكيك بنية الهيمنة، وإعادة بناء الوعي الجمعي على أساس الشراكة، لا التراتب؛ على المعرفة، لا الطاعة؛ وعلى الكرامة، لا الخضوع.
    إن مشروع "تأسيس" بهذا المعنى، يشكّل وثيقة تحرير جديدة، لا للعبيد هذه المرة، بل للنخب التي لا تزال حبيسة امتيازاتها، وللسودان الذي لم يعرف بعد كيف يكون وطنًا يسع الجميع.

    ثانيًا: حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة وتطورها السياسي–الاجتماعي، وصلتها بالتحرر الدستوري
    في السودان الجديد:
    نشأت حركة الحقوق المدنية الأمريكية في سياقٍ من التناقض الصارخ بين الإعلان الدستوري عن "المساواة بين جميع البشر" والواقع العنصري الذي أبقى الأمريكيين الأفارقة خاضعين لقوانين التمييز والحرمان لعقود بعد تحريرهم من العبودية. فمن رحم هذا التناقض، وتحت سطوة قوانين "جيم كرو" التي شرعنت الفصل العنصري في المدارس والمواصلات والعمل والإسكان، انطلقت هذه الحركة في الأربعينات وبلغت ذروتها في الستينات، بقيادة شخصيات تحوّلت إلى رموز في تاريخ الإنسانية التحرري.
    - مارتن لوثر كينغ الابن (1929–1968): قائد اللاعنف، مفكّر ديني وسياسي أسّس مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية، وقاد مقاطعة حافلات مونتغومري سنة 1955، ثم ارتقى بخطابه في مسيرة واشنطن 1963 بخطابه التاريخي "لديّ حلم"
    - مالكوم إكس (1925–1965): من أبرز المنادين بتقرير المصير للسود، ربط بين النضال الداخلي في أمريكا ونضالات الشعوب المستعمَرة في إفريقيا وآسيا.
    - أنجيلا ديفيس، جيمس بالدوين، فرانز فانون، ودو بوا
    W. E. B. Du Bois
    مفكرون نقديون عمّقوا البنية النظرية للحركة، وربطوا بين التمييز العرقي، والاستغلال الطبقي، والاغتراب الثقافي، رؤى لتحرر شمولي يتجاوز الإصلاح القانوني إلى إعادة بناء الوعي.

    من المطالب إلى التشريعات:
    قادت هذه الحركة نضالًا جماعيًا طويل النفس، رفعت فيه مطالب مركزية، منها:
    - المساواة أمام القانون
    - إلغاء الفصل العنصري
    - الحق الكامل في التصويت
    - العدالة الاقتصادية والاجتماعية
    - وقف العنف الشرطي والعنصرية النظامية
    وقد تُرجمت هذه المطالب إلى سلسلة من القوانين التأسيسية في التاريخ الأمريكي الحديث:
    - قانون الحقوق المدنية (1964): منع التمييز على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو الدين في الأماكن العامة والتوظيف والتعليم.
    - قانون حقوق التصويت (1965): حظر السياسات العنصرية التي كانت تمنع السود من التصويت
    - قانون الإسكان العادل (1968): منع التمييز في شراء أو تأجير المساكن
    ولم تتوقف آثار هذه الحركة عند حدود الاثنية، بل امتدت لتلهم نضالات أخرى، ساهمت في إقرار قوانين تاريخية مثل:
    قانون التعليم للأفراد ذوي الإعاقة (IDEA, 1975)-
    قانون الأمريكيين ذوي الإعاقة (ADA, 1990)-
    - تعديلات المساواة في الأجور وقوانين مناهضة التمييز الجندري والجسدي والجنسي.

    صدى حركة الحقوق المدنية في السودان الجديد – تأسيس التحرر عبر القانون:
    إن تجربة حركة الحقوق المدنية الأمريكية تُشكل إطارًا مرجعيًا عميقًا لفهم وثيقة ميثاق "تأسيس" والدستور الانتقالي لتحالف "تأسيس" في السودان، باعتبارهما لحظة تحرر قانوني–اجتماعي من إرث الهيمنة والعنصرية البنيوية التي رسّختها الدولة المركزية.
    فمثلما نص قانون الحقوق المدنية الأمريكي على المساواة القانونية أمام المؤسسات، فإن ميثاق تأسيس ينص صراحة على:
    - المواطنة المتساوية بلا تمييز اثني أو ديني أو ثقافي
    - العلمانية، فصل الدين عن الدولة كشرط لبناء عقد اجتماعي عادل
    - حق تقرير المصير للمكونات الثقافية والسياسية، كضمان للعدالة التاريخية
    - العدالة التوزيعية في الثروة والتنمية بين الأقاليم
    - التمثيل العادل في مؤسسات الدولة وفق قاعدة التعدد والتنوع
    - تفكيك الجيش القومي وإعادة تأسيس مؤسسة عسكرية جديدة على أسس وطنية غير إقصائية
    تُشكّل هذه المبادئ في مجملها بنية قانونية لتحرير جميع السودانيين من البنى النفسية والاجتماعية والطبقية التي رسّختها الأنظمة المتعاقبة منذ الاستقلال. وكما لم يكن قانون الحقوق المدنية الأمريكي مجرد نص قانوني، بل إعلانًا لبداية جديدة، فإن ميثاق ودستور "تأسيس" هما أيضًا إعلانان لولادة دولة سودانية جديدة، يتساوى فيها الجميع، وتُعاد فيها كتابة مفهوم الوطن والسلطة والهوية من الهامش لا من المركز.
    إن نضال السودانيين المهمشين اليوم، في جوهره، يعيد كتابة النسخة السودانية من حركة الحقوق المدنية، لا بنسخة تقليدية مقلَّدة، بل بأدواته الخاصة، وسياقه الثقافي والتاريخي، ومنظوره للتحرر الكامل، النفسي والدستوري والرمزي، من إرث الدولة المتعالية التي طالما شرعنت التمييز والاستثناء.
    وهكذا، فإن المقارنة لا تُبرز التشابه فقط، بل تؤكد أن الوعي القانوني–التحرري الذي عبّرت عنه وثيقة "تأسيس"، يوازي – وربما يتجاوز – من حيث الراديكالية السياسية والفكرية، ما طرحته الحركة المدنية الأمريكية في سياقها التاريخي.

    ثالثًا: من التمرد إلى التأسيس – الهامش السوداني كذات مؤسسة للدولة الجديدة
    كما واجه الأمريكيون الأفارقة في الولايات المتحدة نظامًا عنصريًا بنيويًا أقصى وجودهم من فضاء المواطنة الكاملة، عاش سكان الهوامش السودانية – في جبال النوبة، دارفور، النيل الأزرق، والشرق – تحت منظومة تهميش ممنهجة لم تكن عرضًا، بل هيكلًا راسخًا في بنية الدولة السودانية منذ نشأتها. تهميش لم يقتصر على غياب التعليم والصحة والبنية التحتية وحسب، بل تجاوزه إلى قمع اللغة والثقافة والهوية، وتجريد هذه الشعوب من الاعتراف السياسي والاجتماعي بوجودها كمكونات مؤسِسة للوطن.
    في مواجهة هذا الواقع، لم يكن من الغريب أن ينبثق الوعي التأسيسي من الهامش نفسه. فالحركة الشعبية لتحرير السودان، التي ظهرت في ثمانينيات القرن العشرين، لم تكن مجرد تمرد مسلح، بل كانت إعلانًا لميلاد خطاب جديد يرى السودان من أطرافه لا من مركزه. وبعد انفصال الجنوب، أعادت الحركة الشعبية – شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو، صياغة مشروعها تحت عنوان "السودان الجديد"، فطرحت رؤية جذرية لدولة علمانية، ديمقراطية، لامركزية تعددية، تقوم على العدالة الاجتماعية والاعتراف التاريخي بالمظلوميات.
    هذا التراكم النضالي بلغ ذروته في فبراير 2025 بإعلان ميثاق "تأسيس" والدستور الانتقالي، ثم تشكيل حكومة "تأسيس للسلام والوحدة"، وهو ما يُعد لحظة تحول من التمرد إلى البناء، ومن المطالبة إلى التأسيس. لم تعد المطالب مجرد شعارات احتجاج، بل صارت نصوصًا دستورية واضحة تُعيد تشكيل الدولة من جذورها، على أسس:
    - العلمانية كضامن للمساواة.
    - العدالة التاريخية كتصحيح لمسار الاستعلاء.
    - اللامركزية كبديل للهندسة القهرية للدولة.
    - حق تقرير المصير كحق أخلاقي وسياسي غير قابل للمصادرة.
    - تفكيك الجيش القومي بوصفه أداة هيمنة، لصالح قوات وطنية جديدة تمثل الجميع.
    - التمثيل العادل والمتوازن لكل الأقاليم والمجموعات الثقافية.

    الوعي كفعل تأسيسي: من المُهمّش إلى المُؤسِّس
    ما يميز تجربة الهامش السوداني المعاصر هو أنها تجاوزت منطق المطالبة إلى إنتاج مفاهيم تأسيسية تعيد تعريف الدولة السودانية من جذورها. تمامًا كما قدّم الأمريكيون السود، عبر حركة الحقوق المدنية، وعيًا بديلًا للمواطنة ينقض الأسس العنصرية للدولة، قدّمت "الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال" وشركاؤها في تحالف "تأسيس" تصورًا جديدًا للدولة السودانية، لا يقوم على الإنكار والقسر، بل على الاعتراف بالتعدد، واحترام الحرية، وبناء الشراكة المتساوية في السيادة والمصير.
    في هذا السياق، لم يعد السودان يُقدَّم ككيان فوقي مفروض من مركز سلطوي، بل كمشروع جماعي مشترك تُنتجه إرادة الناس، وتكتبه – للمرة الأولى – أيادي الذين طالما حُرموا حتى من الحق في الحلم، ناهيك عن المشاركة في رسم مصير الوطن.
    لقد تحوّلت تجربة الكفاح المسلّح من تمرد على التهميش إلى ثورة وعي دستوري، ومن جغرافيا المقاومة إلى هندسة بديلة لمفهوم الدولة. ولم تعد المسافة الحقيقية تُقاس بالبعد بين الجبال والعاصمة، بل بالفارق الجوهري بين دولتين: دولة الهيمنة والقهر، ودولة التحرير والمواطنة المتساوية.
    وهكذا، لم تعد هوية الدولة تُختزل في انتماء عرقي أو ديني مغلق، بل أُعيد تعريفها كحلم مفتوح ومتعدد، يقوم على العلمانية، واللامركزية، والديمقراطية، وينتمي إلى كل من أقصاهم النظام القديم، لا بوصفهم ضحايا فحسب، بل كمؤسِّسين جدد لوطن يتّسع للجميع.

    رابعًا: لماذا تخاف النخب من حريتها؟ النخب السودانية نموذجًا
    رغم أن تحالف "تأسيس" يطرح حرية لكل القوى السياسية، فإن الكثير من النخب السودانية – يسارًا ويمينًا – ترفض المشروع وتشيطنه. هذا التناقض يُحلل ضمن إطار "العبودية النفسية"
    (Psychic Bondage)
    كما وصفها إريك فروم وباولو فريري وفانون:
    - إريك فروم في كتابه الخوف من الحرية (1941) يصف كيف يخاف الإنسان من الحرية لأنها تتطلب مسؤولية واختيارًا.
    - فانون يحلل كيف يعتاد المستعمَر على قمعه ويجد فيه شرعية وجوده.
    - فريري في تعليم المقهورين يحذر من أن النخب المستلبة تعيد إنتاج النظام القمعي دون وعي
    هذا يفسر لماذا تعود نخبنا إلى "سيدها القديم"، إلى الجيش، إلى الدولة المركزية، إلى وهم "الانتقال" و"الإجماع"، وتخاف من تأسيس جديد يسلبها امتيازاتها.

    خامسًا: الدعم السريع والوعي الرمادي – بين الجريمة والتوظيف السياسي:
    لا يمكن تبرير الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها قوات الدعم السريع، لكن اختزالها في صورة "مليشيا شريرة" منفصلة عن السياق البنيوي الذي أنشأها، يُعد ضربًا من الإنكار السياسي والتاريخي. فهؤلاء الأفراد لم يسقطوا من السماء، بل تم انتزاعهم من بيئات مهمشة، مهمّشة قسرًا لعقود، ثم أُدخلوا إلى ميدان العنف لا من أجل قضية، بل كأدوات طيّعة في يد مراكز الهيمنة لحماية النظام القديم-نفس نظام النخب.
    أغلب مقاتلي الدعم السريع جاؤوا من عمق التهميش، بلا تعليم، بلا أفق، بلا حضور في مؤسسات الدولة. جُنّدوا، سُلّحوا، وجرى استخدامهم في قمع الآخر، ثم شيطنتهم بعد أن أدوا الدور المطلوب منهم. هذه المفارقة الأخلاقية والسياسية لا تُغتفر، لا للدعم السريع كجهاز، ولا للنخب التي أنشأته أو تواطأت مع وجوده، لكنها في الوقت نفسه تفرض علينا قراءة مركّبة وجدلية لا انتقائية بخفة.

    من أداة قمع إلى نتاج بنية: تفكيك العنف من جذوره لا من مظاهره
    يتّسم مشروع "تأسيس" بوعي عميق تجاه ملف قوات الدعم السريع وغيرها من القوات، إذ لا يتعامل معها كتهديد أمني عابر يمكن حسمه بقرارات إدارية، بل يفهمها كثمرة مباشرة لبنية الدولة السودانية القديمة، التي اعتمدت على إنتاج أدوات قمع من الهامش لحماية مركز السلطة.
    وفي هذا السياق، لا يقدّم "تأسيس" حلًا تقنيًا، بل طرحًا جذريًا لتفكيك منظومة العنف نفسها. فالدستور الانتقالي لتحالف "تأسيس" ينص بوضوح على:
    - ضرورة بناء جيش قومي موحّد ومهني يمثل كافة أقاليم السودان دون استثناء أو تمييز.
    - تفكيك جميع التشكيلات المسلحة، بما فيها قوات الدعم السريع، لا باعتبارها وحدات خارجة عن القانون فقط، بل كامتداد لعقيدة أمنية استبدادية يجب إنهاؤها من جذورها.
    هذا المنظور لا يسعى إلى "دمج" القوة فحسب، بل إلى تفكيك البنية التي أنتجتها، وإعادة تأهيل الوعي الأمني الوطني على أساس الولاء للدستور والمواطن، لا للطائفة أو الجهة أو القائد.
    بهذا، يتحرر مشروع تأسيس من وهم الإصلاح السطحي، ويطرح إعادة هيكلة شاملة لمفهوم السلطة والسلاح، في سبيل بناء دولة مدنية حقيقية لا تستبطن أدوات قمعها في بنيتها نفسها.
    غير أن هذا التفكيك لا يُفهم بوصفه إقصاءً انتقاميًا أو تصفية جماعية، بل يُطرح في إطار معالجة شاملة للبنية التي أنتجت هذه القوات. فقوات الدعم السريع لم تُخلق في فراغ، بل نشأت ضمن منظومة سلطوية عمدت إلى استخدام المهمشين كأدوات في قمع مجتمعاتهم، ما يجعل كثيرًا من عناصرها في آنٍ واحد أدوات قمع وضحايا لسياسات التهميش والإفقار والإخضاع
    لذلك، فإن دمج من يتوافق الشروط العسكرية ضمن المؤسسات الوطنية الجديدة، وفق معايير مهنية ومسارات للعدالة لا يُعد تبرئة للجريمة، بل يشكّل خطوة مزدوجة: إنهاء لدوائر العنف المنفلت، وتحرير للأفراد من أدوارهم القسرية في أجهزة القمع.
    إن التعامل مع ظاهرة مثل الدعم السريع من دون تفكيك السياق البنيوي الذي أفرزها لا يحقق العدالة، بل يُهدد بإعادة إنتاجها في أشكال أشد تطرفًا. وهنا تبرز أهمية العدالة التاريخية لا بوصفها نقيضًا للمحاسبة، بل كإطار أشمل يوازن بين المساءلة الفردية، والمعالجة السياسية والاجتماعية للجذور العميقة للعنف.
    بهذا المعنى، لا يُقاس صدق المشروع الوطني الجديد بقدرته على إقصاء الميليشيا، بل بقدرته على تفكيك الشروط التي أنتجتها، وبناء دولة تُدار على أساس الاعتراف والمحاسبة والعدالة، لا الخوف والاستثناء.

    سادسًا: لماذا تخشى النخب مشروع "تأسيس"؟ – تفكيك الامتياز وهشاشة المركز
    إن ما يثير قلق النخب السياسية والاجتماعية في السودان ليس مجرد تفاصيل مشروع "تأسيس"، بل ما يُمثله من انقلاب عميق على البنية الرمزية والعملية لسلطتها. فهذا المشروع لا يُطالب بإصلاحات تجميلية، بل يعيد توزيع السلطة والمعرفة والموارد والرمزية من المركز إلى الوطن كلّه، وهو ما يعني ببساطة: نزع الامتيازات التي لطالما استندت إليها هذه النخب لتبرير سيادتها على الجميع.
    فـالتمثيل السياسي العادل للأقاليم يعني خصمًا مباشرًا من احتكار الخرطوم ونخبها للمناصب السيادية والإدارية.
واللامركزية في التعليم تعني إنهاء استعلاء الجامعات المركزية، وفتح فضاء معرفي جديد في أطراف البلاد طالما أُقصيت.
أما الخدمات الفدرالية، فتُعيد توزيع الثروة بما يُنهي تسلّط النخب الاقتصادية في العاصمة على موارد البلاد كافة.
    لكن الأهم من ذلك، أن مشروع "تأسيس" يطرح سردية جديدة للوطن، تكتب التاريخ من زاوية المهمشين لا المنتصرين بوضع اليد، وتُعيد تعريف من هو "المواطن"، ومن يملك "الحق في الحكم"، ومن يُقرِّر "شكل الدولة."

    الخوف من فقدان المركزية – هلع من إعادة توزيع الرمزية
    في العمق، لا تخاف النخب من أفكار "تأسيس" كقائمة مطالب، بل من التحوّل الجذري في العلاقة بينها وبين الدولة:
    - إنهاء احتكار المواقع القيادية في الدولة
    - تقليص نفوذ الخرطوم كمركز رمزي وسياسي وحيد
    - تفكيك تراتبيات التعليم والخدمة التي حصّنت بها النخب سلطتها الطبقية
    - فقدان القدرة على تعريف "الوطنية" من منظورها وحدها
    - انكشاف زيف تمثيلها التاريخي للهموم القاعدية، إذ يتضح أن تلك النخب كانت تمثل مصالحها الخاصة، لا قضايا الشعب

    "تأسيس" كمرآة تكشف النخبة وتعيد تعريف السلطة
    يقدّم مشروع "تأسيس" تحولًا نوعيًّا في طبيعة العلاقة بين الدولة والنخبة؛ فهو لا يكتفي بطرح بديل سياسي، بل ينقل النخبة من موقع المركز المُحتكر إلى موقع المساءلة الشعبية. لم تعد الدولة انعكاسًا لإرادة القلة، ولم يعد الشعب مجرّد صدى مشوَّه لصوت الصفوة، بل أصبح – لا سيما في الهامش – فاعلًا ومؤسِّسًا ومطالبًا، لا متلقّيًا ولا تابعًا.
    هذه الإزاحة ليست رمزية، بل تفكيك نفسي–اجتماعي حقيقي لمفهوم الامتياز. فالنخب التي لطالما اختبأت خلف خطاب "الوطنية" وادّعت تمثيل الجميع باسم "الإجماع الوطني"، تجد نفسها اليوم عارية أمام أسئلة التأسيس الجذري: من تمثّل؟ ولمن تتحدث؟ وعلى أي شرعية تقوم سلطتها؟
    ما يُقلق هذه النخب ليس فقط مشروع "تأسيس" كمحتوى، بل انعكاسه كمرآة تكشف تآكل صلاحيتها. فهو لا يُقصي أحدًا، لكنه يُسقط الأقنعة، ويعيد توزيع المعنى والشرعية والقرار. ولهذا، يضع الجميع أمام خيار لا يحتمل الغموض: إما أن يكونوا مواطنين متساوين في دولة جديدة تُبنى على مبادئ الشراكة والعدالة، أو أن يظلوا أسرى ماضٍ لم يعد يصلح حتى لحماية امتيازاتهم البالية.

    خاتمة: بين لحظة التأسيس وسرقة الثورة نفسها
    حين يعجز الثوار عن تنفيذ الثورة، فإن خصومهم لا يترددون في قطف ثمارها. هذه قاعدة يعرفها التاريخ جيدًا، وقد شهدناها حين تنكّرت بعض النخب الأمريكية لحركة الحقوق المدنية أثناء اشتعالها، ثم عادت بعد انتصاراتها لتلبس رداء الداعم المتأخر، وتقتات من المجد الذي لم تصنعه.
    الأمر نفسه يتكرر اليوم في السودان: فـتحالف "تأسيس"، بوثيقته ودستوره الانتقالي، لا يقدّم مجرد برنامج سياسي، بل يفتتح عملية تحول تاريخي، تعيد تعريف الدولة، والمواطنة، والسلطة، من الجذور. غير أن النخب، التي اعتادت على تمثيل لا يمثل إلا نفسها، تقف مرتبكة أمام هذا التحول. تهاجمه علنًا، لكنها تدرك في أعماقها أن مقاومته لن تدوم، وأنها ستعود إليه لاحقًا، لا عن اقتناع، بل هروبًا من الهامش الذي بدأ يتقدم إلى مركز الفعل السياسي والتاريخي.
    تمامًا كما تردّد بعض العبيد الأمريكيين في مغادرة عبوديتهم لأنهم لم يعرفوا غيرها، فإن النخب السودانية ترفض "تأسيس" لا لأنه خاطئ، بل لأنه جديد، لأنها لم تتخيّل وطنًا لا يدور حول مركز الخرطوم، ولا يتحدث باسم الصفوة، ولا يقيس الولاء بعدد السنوات في دهاليز السلطة.
    لكن هناك فرقًا جوهريًا: فالتاريخ لا يُعاد، بل يُكشف. وحين تعود هذه النخب لاحقًا لتسرق مشروع "تأسيس"، ستكون عارية من أي مصداقية، لأن اللحظة قد تجاوزتها، ولأن الوعي الذي أطلقه الهامش لم يعد في حاجة لوصاية من المركز،
    إن الميثاق والدستور ليسا مجرد وثيقتين، بل إعلان تحرير سياسي حقيقي في وجه عبودية الامتياز والتسلط. فإما أن تبصر النخب نور هذه الحرية، وتعيد تعريف دورها في ظل دولة يتساوى فيها الجميع، أو تبقى في ظلام مريح، تنتظر من يحمل المصباح… وليس بالضرورة أن ينتظرها.

    النضال مستمر والنصر اكيد.

    (أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)


























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de