في عالمٍ يزداد ضجيجه ولا يزيد وضوحه، يطلّ علينا فكر كولن ويلسون كما لو كان مرآة قديمة نفضنا عنها الغبار لنرى أنفسنا من جديد. لم يكن فيلسوفًا يعتصم بأبراج جامدة، بل كان كائنًا قلقًا يتشمم أثر المعنى في خرائب الحداثة. وضع يده على الجرح دون ادّعاء نبوة، ومضى يبحث عن الذات في زمن غاب فيه الإنسان خلف أقنعة التقنية.
في كتابه الأشهر "اللامنتمي"، الذي صدر عام 1956، قدّم ويلسون تشريحًا عميقًا لذلك الكائن المتعب الذي فقد علاقته الحيّة بالعالم: الإنسان. لم يكن اللامنتمي في تصور ويلسون مجرد متمرّد أو منطوٍ على ذاته، بل هو صاحب وعي نافذ بلغ به حد الألم. رفض الحياة الآلية التي يفرضها المجتمع الحديث، ونفر من الأجوبة الجاهزة التي تُسكّن القلق ولا تشفيه.
هكذا دخل ويلسون من بوابة القلق الوجودي، لكنّه لم يقف هناك. في كتابه الثاني "الدين والتمرد" (1957)، بدأ رحلته نحو ما يمكن تسميته بـ"الروحانية الجديدة". رأى أن التمرد الأصيل لا يكون بنفي كل شيء، بل بالسعي إلى بناء داخلي، إلى إشعال شرارة في ظلمة الوعي المتعب. آمن أن في الإنسان إمكانًا للسمو، وقدرة على تجاوز ذاته المقيدة. استلهم من ويليام بليك، ومن نيتشه الأخلاقي، ومن المتصوفة المسيحيين والمسلمين، صورةً للوعي المتحرر، القادر على إدراك المعنى الأعمق قبل أن يُختزل في لغةٍ أو مؤسسة.
أفكاره لا تنتمي فقط إلى قلق ما بعد الحرب، بل تمتد إلى زمننا هذا. ففي عصر الرقمنة، و"قلق الأداء"، وتشييء الوعي إلى خوارزميات، يبرز "اللامنتمي" من جديد. لم يعد ذلك الذي يحتج على المجتمع الصناعي وحده، بل أصبح من يشعر بالغربة عن ذاته تحت سطوة المقارنات الرقمية وضغط الصورة المثالية.
في هذا السياق، تبدو دعوة ويلسون إلى "الوعي المركّز"، و"التمرد الروحي"، و"إعادة اكتشاف الإنسان الممكن" نداءً طارئًا لا يُسمع إلا من يستبصر خلف صخب الواقع. لقد رأى أن في داخل الإنسان قوى كامنة يمكن تنشيطها بالتأمل والتركيز واليقظة الوجودية. وهذا يشبه إلى حد كبير ما أصبح يُعرف اليوم بالـ Mindfulness، ولكنّ ويلسون سبقه بتأطير فلسفي عميق، يجعل من التأمل ليس مجرد تقنية، بل ممارسة للتحرر.
لقد بنى فكرًا متمردًا على ثلاثة أقطاب: ضد عقلانية الحداثة الجافة، ضد عدمية ما بعد الحداثة، وضد استلاب الإنسان أمام الآلة. وفي هذا، يتقاطع مع مشاريع نقدية عربية كأفكار طه عبد الرحمن في ضرورة البعد الأخلاقي وعبد الوهاب المسيري في نقد اختزال الإنسان، ومالك بن نبي في إيمانه بـ"العقل المنفتح على الغيب".
إن مشروع ويلسون، حين يُقرأ عربيًا، يقدّم فرصة لاستلهام رؤية إنسانية جديدة؛ رؤية لا تتنكّر للعلم، لكنها لا تقبل أن يُجرّد الإنسان من روحه. لقد حفر في التربة ذاتها التي حرثها نيتشه وكامو، لكنه لم يزرع اليأس، بل غرس الأمل في أن "الإنسان ليس ما هو عليه، بل ما يمكن أن يصير إليه".
والسؤال الذي يُطرح، بعد كل هذا: هل ما زلنا، نحن الذين نحيا في زمن الذكاء الاصطناعي والتسليع الكامل للذات، قادرين على هذا التمرد الروحي الذي دعا إليه ويلسون؟ أم أن "اللامنتمي" لم يعد خيارًا فلسفيًا، بل قدرًا وجوديًا؟
في النهاية، يظل كولن ويلسون شاهدًا على أن الفلسفة لا تُكتب بالحبر وحده، بل بنبض القلب وتوجّس الروح. صوته – وإن بدا من هامش الفكر الأكاديمي – لا يزال يُلهم من يبحثون عن طريق في متاهة العصر، عن شجرة تنمو من أرض القلق وتثمر وعيًا جديدًا، حرًا، وأصيلاً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة