اتفاقية ( التربيس )لمنظمة التجارة العالمية: مسار للتنمية واعادة الاعمار ام ركلًا للسلم بعيدًا. [email protected]
تنبع اهمية المنظمات الاقتصادية الدولية مثل منظمة التجارة العالمية (WTO)والمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) من طبيعة اثارها المباشرة علي سياسات وقرارات الدول الاقتصادية والتجارية. وبالرغم من وجاهة الانتقادات الموجهة لهذه المنظمات كونها تهتم بالجوانب التجارية وتغفل عن الشواغل الانمائية الهامة مثل تآكل حيز السياسات فضلًا عن الشواغل البئية والصحية، الا ان قواعدها واطارها القانوني والمؤسسي تلعب دورًا مهمًا في تهيئة البيئة المناسبة للنمو والتنمية. ولعل التوسع المستمر في عضوية هذه المنظمات يعد ليس فقط دليلًا علي الثقة المتزايدة في النظام التجاري الدولي المتعدد الاطراف بل أيضًا اشارة واضحة الي رغبة الدول المختلفة لتسخيره لدعم الإصلاحات الداخلية فيها. ومواصلة لسلسلة المقالات حول اهمية ادماج السودان في النظام التجاري الدولي المتعدد الاطراف، نتناول في هذا المقال اتفاقية منظمة التجارة العالمية حول جوانب الملكية الفكرية ذات الصلة بالتجارة والمعروفة اختصارا بال(التربيس).
وبداية تجدر الاشارة الي ان حقوق الملكية الفكرية، والتي تتضمن ابداعات العقل من مصنفات ادبية وفكرية وتصاميم وشعارات وأسماء وصور وعلامات تجارية، أضحت اليوم في هذا العصر الرقمي المتسارع من الركائز الاساسية في الاقتصاد المستند علي العلم والمعرفة . وتلعب حماية حقوق الملكية الفكرية دورًا مركزيًا في التجارة الدولية وجذب الاستثمارات وكما تقوم بدور محوري في تمكين المؤسسات والشركات والافراد من تحويل نتائج ابحاثها وابتكاراتها الي اصول ذات قيمة معروفة. وهذا بدوره يساعد في جعلها محركًا وعاملًا اساسيا في نمو المبادلات التجارية بين الدول. بيد ان حقوق مالكي براءات الاختراع تخضع لجملة من القيود والاستثناءات هدفها تحقيق التوازن بين المصالح المشروعة لكل من اصحاب الحقوق والمستفيدين من الملكية الفكرية. وكانت وما زالت كيفية حماية هذه الحقوق نقطة خلاف جوهرية بين الدول المتقدمة والدول النامية في مختلف المنابر الدولية. وتمكنت الدول المتقدمة من ادراج الموضوع في في اجندة الWTO لضمان مواصلة هيمنتها علي عالم التكنولوجيا. واستخدمت الدول المتقدمة الاطار القانوني للمنظمة لتوفير اقصي حماية لهذه الحقوق الامر الذي يصعب من استفادة البلدان النامية من المرونة التي كانت متاحة للدول المتقدمة في المراحل الاولي للثورة الصناعية ولا سيما الولايات المتحدة الاميركية التي استندت ثورتها الصناعية علي اكتاف استغلال وتقليد ترسانة الملكية الفكرية لاوروبا والدول الاخري في مختلف المجالات. ومن جانب آخر تسعي البلدان النامية الي دعم صناعاتها الناشئة بالمطالبة بمزيد من المرونة في اطار جولات المفاوضات حول التربيس وبالحد من تعسف مالكي براءات الاختراع بايجاد التوازن اللازم بين مصالحها وحقوق هولاء وهم في الغالب الشركات الكبرى في الدول الصناعية والتي تقف وراء ادراج هذه المواضيع علي اجندة المنظمات الدولية.
والتربيس TRIPS هي اتفاقية دولية تم وضعها في اجندة المنظمة بدعم قوي من الولايات المتحدة الاميركية ودول اوروبا لتحديد المعايير الدولية لحماية حقوق الملكية الفكرية. وتاريخيًا يرجع الاهتمام بموضوع الملكية الفكرية علي المستوى الدولي الي عام ١٨٨٣ ابان إبرام اتفاقية باريس لحماية الملكية الفكرية. واما إتفاقية التربيس فقد تم التوقيع عليها ضمن إتفاقيات الWTO في عام 1994 ودخلت حيز التنفيذ في عام 1995، وتعتبر واحدة من أهم الاتفاقيات الدولية في مجال حماية الملكية الفكرية.
تهدف الاتفاقية إلى توفير حماية دولية قوية وفعالة لحقوق الملكية الفكرية، بما في ذلك البراءات وحقوق النشر والعلامات التجارية والبرمجيات . وتلزم الدول الأعضاء في الWTO بتطبيق هذه الاتفاقية وضمان حماية حقوق الملكية الفكرية داخل حدود أراضيها. وتشير هذه الاتفاقية الي ان الحد الادني لمدة حماية حقوق الملكية هو ٥٠ سنة في مجال حقوق الطبع و٢٠ سنة في مجال براءات الاختراع و٧ سنوات في مجال العلامات التجارية ويمكن للبلدان الأقل نموًا الحصول علي فترات سماح تمتد الي عشر سنوات لتطبيق احكامها.
وبما ان السودان في طور الانضمام الي الWTO, فانه مطالب بالاعداد جيدًا لفترة المفاوضات للحصول علي اقصي حد للمرونة المتاحة للبلدان الأقل نموا وكذلك باعتباره ايضا مصنفًا من الدول الهشة والمتأثرة بالنزاعات ،لتفادي جوانبها السالبة ولتسخير فوائدها لصالح اعادة البناء والاعمار كما يجب عليه السعي مبكرا لتوفير التمويل اللازم لمرحلة التنفيذ. وتشمل اتفاقية التربيس علي العديد من الفوائد نذكر منها الاتي :
1. حماية حقوق الملكية الفكرية تشجع على الابتكار والإبداع حيث يشعر المبتكرون والمبدعون بالثقة في استثمار وقت وجهد في تطوير أفكارهم وابتكاراتهم دون خوف من الانتهاكات.
2.تزيد من جاذبية الدول للاستثمارات الأجنبية، حيث تضمن الاستقرار والأمان القانوني للمستثمرين وتحمي حقوقهم.
3. تشجع على نقل التكنولوجيا والمعرفة الفنية مما يساهم في تحسين البنية التحتية التكنولوجية وتعزيز الاقتصاد.
4. تساعد في تعزيز التنافسية الصحيحة وتحفيز الشركات على تطوير منتجات جديدة وتقديم خدمات مبتكرة لزيادة الإنتاجية وتحقيق النمو الاقتصادي.
5. تعزز الشفافية وتضمن تنظيمًا فعالًا لحماية حقوق الملكية الفكرية، مما يساهم في تحقيق التنمية المستدامة والعدالة في الاقتصاد العالمي. 6. تسمح بحصول المستهلك علي سلع وخدمات تلبي معايير الجودة. كما تمنع تبادل السلع المقلدة او غير المطابقة للمواصفات. 7. حماية الملكية الفكرية من منطلق اخلاقي وديني ( من غشنا ليس منا) حيث تسهم في الحد من السرقة والكذب وأكل الاموال بالباطل.
بهذه الفوائد ، تعتبر اتفاقية حماية الملكية الفكرية في الWTO نظريًا أداة هامة لتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول الأقل نموًا، وتسهم في تحقيق الاستدامة والتنمية الشاملة. بيد ان واقع الحال يشير الي سعي الدول المتقدمة ولا سيما الولايات المتحدة الامريكيه فرض اجندتها علي الدول النامية لخدمة مصالح شركاتها ولا سيما اثناء المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف مع الدول الساعية للانضمام مثل السودان. وما زالت مطالبات الدول النامية بخصوص مراعاة شواغل الصحة العامة في قواعد التربيس تواجه بالرفض. وهنا تجدر الاشارة الي الرفض القاطع الذي واجه المقترح المتعلق برفع تطبيق احكام اتفاقية التربيس لتمكين غالبية سكان العالم الحصول علي التطعيمات ضد وباء كوفيد-١٩ رغم حصوله علي دعم غالبية الدول الاعضاء في المنظمة. ومنح اليمن اثناء مفاوضات انضمامه الي المنظمة فترات انتقالية اقل من تلك المتاحة لفئة اقل البلدان نموًا لتطبيق احكام اتفاقية التربيس. وعليه ينبغي للمفاوض السوداني الاعداد جيدًا لمثل هذه الضغوط التي تهدف الي حرمانه من حقوقه الكاملة كدولة من فئة الاقل البلدان نموًا . وعلي ضوء ذلك فإن اتفاقية التربيس يمكن اعتبارها سلاحًا ذو حدين حيث تساعد حماية الملكية الفكرية في جذب الاستثمارات الاجنبية وتشجيع الابتكار والابداع في المجالات المختلفة من جهة ومن جهة اخري تمثل عبئا ماليًا وبشريًا هائلًا وكما انها ترفع من تكلفة نقل تقنية المعلومات وتقلل من حيز السياسات المتاح للدولة. وعليه فان موضوع حماية الملكية الفكرية يمكن اعتباره سلاحًا ذو حدين وينبغي للسودان في مرحلة ما بعد الحرب البدء في الاعداد الجيد عبر الابحاث واجراء دراسات معمقة بحيث يتم علي ضوئها وضع استراتيجية واضحة لتحديث القوانين والانظمة ذات الصلة واعداد خارطة طريق للاستفادة القصوي من المساعدات الفنية المتاحة ولتسخير هذا الملف لصالح تعزيز السلام والتنمية والنمو واعادة الاعمار.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
فضل محي الدين طاهر
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست