منذ توقيع اتفاق جوبا في 2020، حاول مني أركو مناوي، رئيس حركة تحرير السودان، أن يعيد تقديم نفسه كرجل دولة وداعية للسلام. لم تقتصر جهوده على بناء جسور مع القيادات المركزية، بل تواصل مباشرة مع جماهير الوسط والشرق والشمال، حيث قوبل بترحاب ملحوظ. لكن ذلك المسار لم يدم طويلا؛ إذ بدأ الرجل يتراجع خطوات إلى الخلف، وكأنما ينقض غزله السياسي بيده.
فقد كشفت قسمة السلطة بعد الاتفاق عن أزمة إدراك حقيقية لأولويات الدولة لدى بعض قادة الحركات المسلحة، خاصة في ظل تهديد وجودي يواجه السودان اليوم، يتجلى في الحصار المفروض على الفاشر من قبل مليشيا الدعم السريع. ورغم أن شروط مناوي على التشكيل الوزاري الأخير قَبِلَت على مضض لكنه لم يكتف بذلك فعاد وأطلق تصريحات تنم عن نزعة ابتزاز سياسي، مُلوّحا بإمكانية التفاوض مع المليشيا، في مخالفة واضحة للثوابت السيادية، وكأنه لم يعِ بعد أن موقعه الحالي لا يُخوّله اتخاذ قرارات مصيرية بصورة منفردة.
وقد يظن مناوي أنه يربح في معركته الإعلامية أو في أعين مؤيديه، لكنه في الواقع يخسر على جبهات أوسع، ليس فقط في أوساط شركائه في الدولة، بل ربما داخل حركته نفسها، التي بدأت تدفع ثمن هذا الخطاب المرتبك سياسيا والمكلف أخلاقيًا. فالرجل يُسائل اليوم عن غياب الإنجاز التنموي في دارفور، رغم ما أُتيح له من موارد وسلطات، بموجب اتفاق جوبا الذي نصّ على تحويل أموال ضخمة إلى الحركات الموقعة، دون أثر ملموس على الأرض.
الأخطر من ذلك أن خطابه الأخير قد يجرد مقاتلي قواته في الميدان من غطائهم المعنوي، فهم يعلمون جيدا من هو العدو، ويدركون أن أي محاولة لـ”مغازلة” الجنجويد ليست سوى طعن في ظهر المشروع الوطني الذي يقاتلون في سبيله.
لقد أثبتت التجربة السودانية أن كل محاولة لدمج الحركات المسلحة في الدولة دون نزع سلاحها أو إعادة تأهيل خطابها، لا تُنتج إلا المزيد من الفشل الوطني. فلا تُبنى الدول بالمحاصصة، ولا تُؤسس شرعية الدولة عبر الرصاص، ولا تُدار مؤسساتها وفق مزاج من اعتادوا منطق الميدان لا منطق القانون والمؤسسات.
آن للسودان أن يُنهي هذا المسلسل السياسي المرهق: حركات تناضل ضد ما تراه إقصاء، ثم تُعيد إنتاج الإقصاء من داخل السلطة. آن للوطن أن يتحرر من “جمهورية البنادق المؤجلة”، ويعود إلى مشروع الدولة الواحدة لا السلطة الموزعة.
فإما أن تعود الحركات المسلحة إلى حضن الدولة بلا سلاح، أو تبقى خارج التاريخ، تتآكل خلف شعارات لا جمهور لها، وبنادق بلا هدف. وإما أن تتوحد راية السلاح تحت علم الدولة، أو نظل في دوامة دويلة داخل الدولة، وانتقال بلا انتقال.
وهنا، لا يمكن تجاهل أن اتفاق جوبا، كما نُفذ، لم يعد صالحا كمرجعية للسلام أو لبناء الدولة. فقد تجاوزه الواقع السياسي والميداني، وصار أشبه بترتيب مؤقت يخدم الامتيازات أكثر مما يخدم مشروع الدولة.
لذلك، لم يعد السؤال: كيف نُفعّل اتفاق جوبا؟
بل بات السؤال الأهم: كيف نتجاوزه نحو بديل أكثر واقعية وشمولا وخدمة للمواطن السوداني غربا وشرقا وشمالا وجنوبا؟
بديل يُعيد ضبط العلاقة بين الدولة والسلاح، يُعيد الاعتبار للسياسة كمجال تفاوض لا تهديد، ويُرجع للمواطنة قيمتها كمرجعية أولى لا مجرد رخصة عبور نحو الامتياز.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
د. ياسر محجوب الحسين
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست