موقع رئاسة الوزراء وموقعها التاريخي: رئاسة الوزراء ليست منصبًا إداريًا فحسب، بل هي موقع محوري في هندسة السلطة السياسية، وإدارة التوازن بين الرؤية السياسية والمصلحة الوطنية، وبين الاستراتيجية الداخلية والعلاقات الخارجية. رئيس الوزراء هو رأس السلطة التنفيذية في الأنظمة البرلمانية، أو الشخصية المكلفة بقيادة الحكومة في الأنظمة شبه الرئاسية، وهو المسؤول عن تنفيذ السياسات العامة، وإدارة الوزارات، وتنسيق الجهود الوطنية، بما يتماشى مع رؤية الدولة وقيمها الدستورية. تاريخيًا، تطورت مؤسسة رئاسة الوزراء لتكون رمزًا للقيادة المدنية التي تمثل مصالح الشعب أمام السلطتين التشريعية والقضائية. في الأنظمة الملكية الدستورية مثل بريطانيا، يعد رئيس الوزراء القائد الفعلي للدولة على الرغم من وجود الملك. أما في الأنظمة الرئاسية، كما في الولايات المتحدة، فهناك اندماج للسلطة التنفيذية في شخص الرئيس، بينما يظل رئيس الوزراء في الدول البرلمانية رمزًا للتوازن والرقابة السياسية، بعيدًا عن النزعات الفردية أو السلطوية. وكما قال الفيلسوف السياسي ألكسيس دو توكفيل: "المؤسسات السياسية لا تنجح إلا إذا ارتكزت على وعي الشعب ومشاركته، فالقوة الحقيقية للحكومة هي في مدى توافقها مع وعي الجماهير." ومن هنا، لا يمكن لرئيس الوزراء أن ينجح إذا لم يكن انعكاسًا لإرادة الناس ومعبّرًا عن طموحاتهم.
دروس من قادة العالم: وزراء واجهوا أزمات وجودية: عرف التاريخ الحديث رؤساء وزراء تصدوا لتحديات وجودية، حروب وكوارث طبيعية وأزمات اقتصادية. وينستون تشرشل في بريطانيا قاد بلاده خلال الحرب العالمية الثانية، رافعًا شعار "لن نستسلم أبدًا"، فكان رمزًا للصمود الشعبي والإرادة السياسية. في الهند، واجه جواهر لال نهرو تحديات بناء دولة حديثة بعد الاستقلال، واضعًا أسس دولة علمانية ديمقراطية رغم الصراعات الطائفية. وفي رواندا، جاء بول كاغامي بعد الإبادة الجماعية ليعيد بناء الدولة عبر رؤية قومية تقوم على المصالحة التاريخية والتنمية. هؤلاء القادة لم ينجحوا بالمراوغات والاحتيال، ولا بالقرارات العسكرية أو الاقتصادية فحسب، بل لأنهم فهموا جوهر اللحظة التاريخية، وارتكزوا على مشروع وطني جامع وذكي، يوازن بين المصالحة والتغيير الجذري-لا يهادن في المبادئ، ونحن لن نتوقع منك ولا من بقية التنفيذيين في المواقع الوزارية اقل من هذا!
السودان: تعقيدات الماضي والحاضر: السودان ليس بلدًا عادياً، ونحن لسنا في وضح "تحول ديمقراطي عادي او إعادة مسار ثورة ديسمبر" وما اليه، بل عقدة تاريخية من صراعات الهوية، الحروب الأهلية، والتهميش البنيوي. هناك ملايين من النازحين واللاجئين المظلومين، وهناك جوع ومرض وتفكك اجتماعي، وحكومة ديكتاتورية في بورتسودان تستند علي جيش فاشي من مليشيات إسلامية عنصرية مهووسة دينيا. ومع ذلك، فإن تحالف تأسيس، بوثائقه ودستوره الانتقالي، يقدم لأول مرة إطارًا فلسفيًا وسياسيًا متماسكًا لبناء سودان جديد يقوم على: - العلمانية والديمقراطية التعددية. - اللامركزية والعدالة التاريخية. - الاعتراف بالتنوع الثقافي واللغوي والإثني دون تمييز. - حق تقرير المصير كحق ديمقراطي وفلسفي أصيل، وليس مناورة سياسية. إن ميثاق تأسيس والدستور الانتقالي ليسا نصوصًا بيروقراطية، بل خلاصة أربعين عامًا من الدماء والنضال، وسبعين عامًا من البحث عن وطن يليق بأبنائه.
مهام رئاسة الوزراء في أول 100 يوم: يا أستاذ محمد حسن التعايشي، إن تعينك في هذا المنصب يوم 26 يوليو 2025 هو تكليف ثقيل، يتطلب إرادة تاريخية تتجاوز كل الحسابات الشخصية والسياسية. يجب أن تكون الأولويات: ١/ وقف النزيف الإنساني فورًا: عبر خطة إنقاذ عاجلة للنازحين واللاجئين، وتأمين الغذاء والدواء. ٢/ إعادة هيكلة مؤسسات الدولة وفق مبادئ تأسيس، خاصة الأجهزة الأمنية والعسكرية، لضمان عدم تكرار مركزية العنف. ٣/ إطلاق حوار تأسيسي شامل مع قوى الثورة والمجتمع المدني، على قاعدة الاعتراف بالعدالة التاريخية لا المساومات ٤/ إصلاح الاقتصاد عبر تبني سياسات شفافة لإعادة توزيع الموارد على المناطق المهمشة، ووقف نهب الثروات. ٥/ تعزيز الدبلوماسية التأسيسية، بالانفتاح على تجارب التحرر في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وإعادة تعريف السودان كدولة جديدة تقوم على قيم الكرامة والمساواة. ٦/ تطوير استراتيجية لوقف الحرب وكل الحروب عبر معالجة أسبابها. أما على المدى المتوسط، فيجب أن تبدأ ببناء مؤسسات دستورية راسخة، وتأطير عملية الدستور الدائم وفق المبادئ فوق الدستورية، ودستور تأسيس الانتقالي مع تأسيس منظومة تعليمية وثقافية تدعم مشروع السودان الجديد، وتستعيد الهوية السودانية المقهورة.
التزام بمشروع السودان الجديد: بكل وضوح، وبلا مجاملة، نقولها لك: أي انحراف عن مشروع السودان الجديد، المعبر عنه في رؤية تأسيس، أو أي محاولة للالتفاف على مبادئه، ستُعد خيانةً مباشرة لدماء الشهداء، وازدراءً لتضحيات الملايين الذين حملوا هذا المشروع على أكتافهم عقودًا طويلة. مشروع تأسيس ليس ورقة تفاوض ولا تسوية وسط، بل هو عهد مع جماهير اختارت التحرر الكامل لا الترقيع. ونحن لا ننسى - ولن ننسى - أن اتفاق سلام جوبا، الذي كنتَ أحد مهندسيه والمروّجين له، لم يكن اتفاقًا شاملاً يعالج جذور المشكلة السودانية ولا أسباب الحروب، بل جاء امتدادًا لنهج المساومة، وسلاحًا لتفتيت قوى الهامش الواعية وتمييع مطالبها. لقد صُمم ذاك الاتفاق ليمنح شرعية زائفة للنظام القديم، ويجهض مشروع السودان الجديد عبر تمرير ترتيبات شكلية تُبقي على مركزية الدولة وتعيد إنتاج ذات البنية التي فجّرت الحروب، ونتيجته امامنا جميعا ولاتحتاج الي اجترار! اتفاق جوبا لم يعترف بالعلمانية، تجاهل الحق في تقرير المصير، أغفل مفهوم العدالة التاريخية، واستبعد أغلب قوى الثورة الحقيقية، وأنت تعلم ذلك أكثر من غيرك. أما اليوم، وقد أصبحت على رأس حكومة تنطلق من ميثاق تأسيس ودستورٍ انتقاليٍّ ممهور بإرادة الشهداء والمناضلين، فإن أي تكرار لتلك المناورات القديمة أو محاولة لتمويه المشروع التأسيسي والاحتيال عليه، سيكون ثمنه باهظًا. لا تتوهم ابدا أن وعي جماهير السودان الجديد يمكن خداعه.. شعب السودان الجديد لن يهادنك، ولن يمنحك شيكًا على بياض. سيحاسبك بدقة وحسم، وبلا مجاملة، على كل موقف وكل قرار. وإن حاولت تكرار ما فعلته في اتفاق جوبا من احتيال والتفاف على جوهر المطالب، فسيكون الرد شعبيًا وسياسيًا وأخلاقيًا، صارمًا وحازمًا، لا رحمة فيه ولا تردد. لقد جئت اليوم إلى رئاسة الوزراء لتقود مشروعًا يناقض تمامًا ما دافعت عنه في اتفاقية سلام جوبا، والمطلوب منك الآن واضح لا لبس فيه: أن تعلن تراجعًا صريحًا وشجاعًا عن تلك المقاربة الفاشلة، وأن تُظهر التزامًا كاملاً، لا مواربة فيه، بمشروع السودان الجديد كما نصّت عليه وثائق تحالف "تأسيس": دولة علمانية، ديمقراطية، لا مركزية، تقوم على العدالة التاريخية والمواطنة المتساوية دون تمييز، وان تترجم مع غيرك هذه القيم الي خطط وبرامج ليتم تنفيذها. هذا هو العقد السياسي والأخلاقي الذي ربطتك به جماهير السودان الجديد. وأي انحراف عنه، أو تلاعب به، سيُواجه بمقاومة شعبية شرسة، لا تعرف التهاون ولا التسامح مع من يخون المشروع الذي مهروه بالدماء والفقد والمعاناة.
جماهير السودان الجديد: وعي صلب لا يتزحزح: يا أستاذ التعايشي، إن جماهير السودان الجديد التي صنعت تحالف "تأسيس" بوعيها وإرادتها، وسقت مشروعه بدمائها وأعمارها وأحلامها على مدى عقود طويلة، ليست كغيرها من الجماهير التي راهن عليها السياسيون في الماضي. لقد تعلّمت هذه الجماهير من التجارب المريرة أن الوطن لا يُبنى بالمناورات ولا بالمساومات الرخيصة، بل بصدق المواقف، وبإرادة قطيعة كاملة مع دولة المركز الظالمة التي كانت لعقود أداة قهر وإقصاء ونهب. لقد خبرت هذه الجماهير سلوك السياسيين السودانيين، من يمينهم إلى يسارهم، بما فيهم كل من حاولوا التذاكي أو الالتفاف على مطالبها الحقيقية، معتقدين أن بوسعهم خداعها بالشعارات الفارغة أو الوعود المضللة. لكن جماهير السودان الجديد ليست تلك الجماهير القديمة؛ وعيها اليوم مختلف، صلب، ومحصّن ضد ألاعيب النخب القديمة. هذه الجماهير لم تعد تثق إلا فيمن يلتزم التزامًا كاملاً بمبادئ العلمانية، الديمقراطية، العدالة التاريخية، واللامركزية، وهي المبادئ التي لن تسمح لأي سياسي أن يحيد عنها أو يشوهها دون أن يلقى الرد القاطع.
ختاما: تكليف غير عادي لإرادة غير عادية!: إن المنصب الذي تتولاه اليوم يا أستاذ محمد حسن التعايشي ليس شرفًا فحسب، بل امتحانًا تاريخيًا لإرادتك وصدقك أمام شعبٍ صنع مشروعه بدمائه ووعيه. قيادة حكومة السودان الجديد ليست منصبًا إداريًا تقليديًا، بل موقعًا ثوريًا يتطلب شجاعة استثنائية وإرادة لا تعرف المساومة، في زمن لم يعد يحتمل التلاعب أو أنصاف المواقف. يقول نيلسون مانديلا: " لقد تعلمت أن الشجاعة ليست غياب الخوف، بل الانتصار عليه" واليوم، أنت مدعوّ لتنتصر على الخوف من التغيير الجذري، وأن تبرهن أن هذا الموقع ليس لإدارة بقايا الدولة القديمة بالأساليب القديمة، بل لتأسيس دولة جديدة تقوم على العدالة التاريخية، العلمانية، الديمقراطية، واللامركزية. ويحذّر نعوم تشومسكي بقوله: "المسؤولية الكبرى تقع دائمًا على من يملك الوعي والقدرة، لأن التهرب من قول الحقيقة أو مواجهتها هو أعظم أشكال التواطؤ" ! ويقول فرانتز فانون: "كل جيل عليه، في غموض نسبي، أن يكتشف رسالته، إما أن ينجزها أو يخونها." ومهمتك اليوم واضحة: أن تكتشف رسالتك في هذا الموقع، وأن تنجزها دون خيانة لمبادئ السودان الجديد. وهذه الكلمات موجَّهة إليك اليوم، فأما أن تكون على مستوى وعي شعب السودان الجديد، أو أن تصبح شاهدًا جديدًا على خيانة التاريخ.
إن جماهير السودان الجديد لن تقف صامتة أمام تكرار أخطاء الماضي، ولن تمنح أحدًا حصانة من المحاسبة. ستراقبك وتقيّمك، وتحاسبك – كما حاسبت غيرك – بالقسط والميزان، بلا تهاون ولا مجاملة. فهذا الوطن أنهكته الخيبات، ولم يعد يحتمل مزيدًا من الخداع أو الالتفاف على مشروعه التحرري. ومن يحاول الانحراف عن طريق السودان الجديد، فلن يُغفر له، وستكون الجماهير له بالمرصاد.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة