في مهبّ القصيدة، ليست الكلمات وحدها ما يوقظ الذاكرة، بل الصور التي تختبئ خلف اللغة، وتلك اللوحات الخفية التي يرسمها الشعر في دواخلنا. هناك لحظات تقرأ فيها بيتًا، فلا تراه على الورق، بل تراه يرتسم كلوحة فنية متحركة في وجدانك. فتمتد أمامك مساحةٌ واسعة من الضوء والدهشة والحنين. وكأن الشاعر بشري الفاضل لم يكتب، بل لوّن بصوت الفنان مصطفى سيد احمد على جدار الروح، حيث الذاكرة تصير مشهدًا حيًّا، والألم يتخذ شكلًا مرئيًا، كأنك تتلمّسه.
وحين تلامسك تلك الأبيات:
صحرا في عينيا تتواثب جناين ماخدة صوتك من جداول وما خدة صورتك من كهارب مولّداً ميدانو حافل كلما يصبّح… تجيهو الناس جحافل يا سلام… يا سلام
تجد نفسك لا تقرأ قصيدة، بل تدخل مشهدًا حيًّا، لوحةً بارعة التكوين، مكتملة اللون والظلّ. كأن بشري الفاضل رسم الصحراء لا كجدبٍ ممتد، بل كجناين تنبض في العين، كصوتٍ مأخوذ من جداول تنساب بلا ضفاف، كصورةٍ من كهارب لا تُمسك باليد ولكنها تضيء كل زواياك الداخلية.
هنا، تتحوّل القصيدة إلى ساحةٍ تنبض بالحياة، ميدانٌ مفتوح، تصبّح فيه الأرواح المنهكة وتجيئه الناس جحافل، بحثًا عن لحظة ضوء، عن اسمٍ لم يُنس، عن حُلمٍ لم يُدفن بعد.
إنها ليست استعارات لغوية فحسب، بل مرايا شعورية ترى فيها ملامحك، وأمكنتك، وتلك الهُويّة الممزقة بين الصحراء والنهر، بين الكهربة والسكون، بين الغياب والاحتشاد.
و”يا سلام… يا سلام” ليست مجرّد لازمة جمالية، بل شهقة دهشة، صدى اندهاشٍ داخلي، يخرج منك كما يخرج البكاء الخافت حين تلامس روحك جمالًا لا يُوصف، وجعًا لا يُحكى، وحنينًا لا يُفسَّر
ذلك الأثر – الحيّ فيّ حتى الآن– أعادني إلى صوت مصطفى سيد أحمد، لا كغناء يُسمع، بل كحضور ينهض من عمق الذاكرة. كان صوته يتسلل كنسيمٍ خفيّ من نافذة الروح، وكان حضور القصيدة في صوته كأنما المسرح نفسه يتحوّل إلى مشهدٍ حيّ، والناس يمشون في الشوارع وهم يحملون بؤسهم اليومي وأحلامهم المنسيّة.
حين أسمع:
لمّا تعبري في الشوارع شوفي كيف الناس تصارع ناس تطفّر.. وناس تدفّر في البشابي على نجومك وفي البخب.. كايس تخومك وكل زول من عن سُلافك لا لا.. قال داير لو كاس
تنهض القصيدة، لا ككلمات، بل كصرخة ناعمة من وجع البسطاء. يا لها من صورة شعرية تمنحك لغة المعاناة بلا أنين، وتفتح لك أبواب التأمل في صراع الإنسان مع الحياة في زمنٍ جاف.
ذكر لي الأديب الجميل بشري الفاضل – حين التقيته في مارس 2018 مع صديقي المحب للخير والجمال التشكيلي عبدالواحد وراق – أن مصطفى سيد أحمد تغنى له بثلاث قصائد: “حلوة عينك” و”الجبال قالت غروب” و”متخبية والناس شايفينك”. وكلّ قصيدة منها كانت مفترق طرق في إحساسي. لكن “الجبال قالت غروب” كانت من القصائد التي تسللت إلى داخلي بتوقيتٍ خاص: في نهاية المرحلة الثانوية، عام 1998 مع بداية الخدمة الإلزامية، حيث كان الشباب يتقافزون بين الأحلام المؤجلة وبين الاحلام المبعثرة في سماء الخرطوم.
لم تكن تلك القصيدة هروبًا من الواقع، بل مواجهة له على نحوٍ آخر. قد يراها البعض نداءً للهجرة، بينما هي صدى لصدق اللحظة، صوتًا باسم جيلٍ كان يسأل نفسه كل ليلة: إلى أين؟
الجبال قالت غروب لا المزامير راح تغني لا الهجايع راح تذوب الحزن غطى المسارق والدروب مافي غير تلكّع تسافر شيل حقايبك… وامشي بينات الشعوب
يا له من مقطعٍ يشبه أرواحنا في تلك المرحلة، عندما كانت البلاد تميل بنا كغصنٍ مجهد في مهبّ ريح، وكان السفر أشبه بالنجاة من غرقٍ داخلي.
لم تكن تلك الأغاني مجرد ألحان، بل كانت محطات للبوح، نوافذ يطلّ منها الحنين، وأحيانًا مواقيت سرّية نراجع فيها خرائط أرواحنا… لنرى كم ابتعدنا عن أنفسنا، وكم تبقّى منا في القصيدة
يتبدى المقطع الأخير من القصيدة، كما لو كان مِرآةً عاكسة لروحٍ كانت تعيش على هامش الأمل، وتصارع مع كل لحظة فراغ قد تتحوّل إلى حزنٍ طويل. هنا، يتحدّث الشاعر بشري الفاضل عن الهمة والمصادمة مع الواقع، عن تلك اللحظات التي يواجه فيها الإنسان نفسه كما لو أنه يفتح بابًا على قسوة العالم من حوله، ويدعوه للوقوف بثبات أمام الطوفان.
يستدعي الشاعر في هذا المقطع الهمّة في لحظة من الظلام الحزين الذي يسحبنا إليه كما يسحبنا الضباب في متاهات الليل، ووسط هذه الأجواء الضبابية، يصرخ بصوتٍ يجلجل في الذهن:
يا ليل صباح؟؟ الظلام حيران وحيد من غير جناح قتّ نان كيفن نسوى؟؟
في هذه الكلمات نجد أسئلة مؤجلة، أسئلة تنبع من ألم الحيرة في الظلام الدامس، حيث لا يبدو للحياة جناحٌ تحلق به، وحينما تجد نفسك في تلك اللحظات الهشّة، تصبح الحيرة مرادفًا للوحشة، وكأنك تفقد قدراتك على التفاعل مع الواقع وتُصاب بالعجز أمامه.
ثم تأتي الرياح من جهة الجنوب، حاملة معها نداءات:
جات نسايم هابة من جهة الجنوب صرخت فيك يا مسيكين شيل سلاحك أرضى أرضى .. جوى جوى ..
هذه الرياح ليست مجرد نسائم، بل هي تهديدات قد تكون بمثابة تذكير بالإرادة التي لا بد أن تستيقظ وتستعيد قوتها. ليس التراجع خيارًا في زمنٍ كهذا، بل يصرخ النداء كما لو كان سيلًا من الحماسة الداخلية التي تشجّعك على رفع سلاحك، ليس سلاحًا ماديًّا، ولكن سلاح الإرادة، سلاح التحدي.
وفي قلب ذلك الفزع، تتوالى التساؤلات، كيف للإنسان أن يواجه هذه العواصف الداخلية والخارجية في آنٍ واحد؟ وهل تستطيع الأحلام أن تكون دربًا للنجاة؟
اللهب من غير جمر كيفن نسّوى؟؟
هنا، تظهر هذه الجملة كاستفهام فلسفي: هل يمكن للإنسان أن يواجه الحياة بالخشوع فقط، دون أن يملك الجمر الذي يشعل قلبه؟ كيف للإنسان أن يظل حيًا في زمن يتسارع فيه كل شيء، وتغيب فيه الأجوبة واضحة؟
وفي النهاية، نجد في قصيدة بشرى الفاضل نداءً يرفع الغبار عن الروح ويضع أمامنا تساؤلات عظيمة عن الحياة، عن الحلم، وعن الإيمان:
أبقى حالم ولم كلامك لي زمن من غير عيوب ولا سافر.. أمشى بى درب السحابة وجيبة لى أماتنا زى حطب الفزع وأرفع الفاس كسرة ينزل مطر…
هنا، يتسرب ندى التفاؤل بين شقوق القصيدة. الهمّة هي أن تبقى حالمًا في وجه الألم، أن لا تضعف أمام تعقيدات الحياة، وأن تسير في دروبٍ قد تكون غير مرئية أحيانًا، ولكنك تبقى في حركةٍ مستمرة، لا تتوقف عن الحلم، مهما تعرقلت خطواتك.
من خلال هذا المقطع، لا تكتفي القصيدة بأن ترفعنا في عالم الأحلام فقط، بل تطالبنا أيضًا بأن نتحلى بقدرةٍ على إعادة بناء الروح، وفتح نوافذ الأمل التي لا يغلقها أي جدار.
في مهبّ القصيدة، لا تسقط الكلمات، بل تُزرع. وحين يشتدّ الريح، تظهر لتُذكّرك أنّ ما نجاك لم يكن فقط الحب أو الأمل، بل ذلك السطر الذي لم يُكتب بعد… تلك الاستعارة التي ظلّت تنتظر قلبك ليفهمها.
وهكذا، أُدرك أن الشعر، حين يكون صادقًا، لا يُفتح كنصّ، بل يُفتح كنافذة… على الذات، على الذاكرة، وعلى ما نظنّه ماضٍ، وهو في الحقيقة يسكننا كحاضر لا يموت.
وهكذا، أُدرك أن الشعر، حين يكون صادقًا، لا يُفتح كنصّ، بل يُفتح كنافذة… على الذات، على الذاكرة، وعلى ما نظنّه ماضٍ، وهو في الحقيقة يسكننا كحاضر لا يموت. Get Outlook for Android
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة