في لحظة مفصلية تشهد فيها المنطقة تحولات استراتيجية متسارعة، كشفت تسريبات دبلوماسية عن عرض تقدّمت به إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث يقضي بتدخل أميركي لحل أزمة سد النهضة مقابل موافقة مصر على إنشاء مدينة خيام إنسانية في رفح، على الحدود بين غزة وسيناء. هذا العرض، الذي جاء مموهًا بلغة الإغاثة، يتضمن تصورًا إسرائيليًا لإعادة توزيع السكان الفلسطينيين تحت ذريعة تخفيف المعاناة، لكنه عمليًا يُعيد فتح ملف سيناء كمجال وظيفي، لا كمنطقة سيادية مغلقة كما تراه القاهرة.
الموقف المصري من العرض لم يكن مجرد تحفظ دبلوماسي، بل تعبيرًا عن قناعة استراتيجية بأن سيناء منطقة حيوية ذات أهمية قصوى للأمن القومي المصري وتُدار وفق استراتيجيات مركزية صارمة. وتزامن ذلك مع تحركات استخبارية وإعلامية أثارت الانتباه، أبرزها تداول بيان نُسب لكيان مجهول باسم (مجلس عشائر سيناء) يدعو لكسر الحصار عن غزة وفتح المعبر. وقد نفت قبائل سيناء رسميًا وجود هذا الكيان، ورفضت استخدام أسمائها في مسارات سياسية مجهولة المصدر، ما يُظهر حسًا وطنيًا قويًا داخل النسيج المحلي، ورفضًا لأي توظيف خارجي للهويات القبلية.
هذا التوظيف ليس جديدًا ، إذ سبق أن استخدمته إسرائيل خلال احتلالها لسيناء، حين حاولت تجنيد بعض الزعامات القبلية لتسهيل السيطرة الميدانية، مقابل ولاء ظاهري. لكن تجارب مثل تلك التي قادها الشيخ سليمان الهليل، الذي تعامل بتكتيك مزدوج بين الحلف الرمزي والمعلومات الميدانية، تكشف أن الهويات المحلية قادرة على المناورة، لا الاستغلال. يمكن مقارنة هذا النموذج بحالات أخرى، مثل تدخل إسرائيل في الجنوب السوري تحت عنوان (حماية الدروز)، حيث مثّلت تلك الخطوة مدخلًا لإعادة رسم الجغرافيا وتعزيز مناطق النفوذ غير المباشرة.
ويتقاطع هذا التصور مع عقيدة إسرائيل الأمنية التقليدية، التي تسعى إلى إحاطة حدودها بمناطق عازلة تُدار عبر وكلاء محلّيين أو شركاء وظيفيين. سيناء، في هذا السياق، تُطرح كمجال قابل لإعادة توظيفه أمنياً وسكانياً تحت عنوان إنساني، ما يُجنّب إسرائيل الاحتكاك المباشر ويُعيد تصدير الأزمة إلى الطرف العربي دون دفع كلفة سياسية أو سيادية مباشرة.
المقترح الأميركي أيضًا يُوظف الكثافة السكانية في غزة كأداة هندسية، وليس فقط كأزمة إنسانية. مدينة الخيام المقترحة تُعامل كآلية لتفكيك الكتلة الديمغرافية الفلسطينية، كما حدث سابقًا في حالات مثل اللاجئين السوريين على حدود أوروبا أو الروهينغا في جنوب آسيا، حيث أصبحت الكتلة البشرية أداة ضغط وتفاوض بدلاً من كونها هدفًا للحماية أو التمثيل.
وعلى المستوى الإقليمي، تظهر ديناميكية جديدة بعد تراجع حضور إيران الاستراتيجي نتيجة استهداف بنيتها العسكرية والعلمية. ما تلا ذلك كان توجهًا نحو القوى العربية القادرة على التعطيل، وعلى رأسها مصر، التي تمتلك أدوات سياسية وعسكرية تجعلها مؤثرة في ملفات مثل إعادة التوطين، الأمن الحدودي، وترتيب العلاقات الإقليمية. من هذا المنظور، فإن عرض ترامب لا يُقرأ كصفقة منفصلة، بل كمؤشر على محاولة اختبار مرونة الدولة المصرية ومدى قابليتها للمشاركة في إعادة هندسة المنطقة بصيغة جديدة.
المسارات العسكرية تُشير إلى أن مصر واعية لهذا التحول، وقد بدأت منذ سنوات بتحصين سيناء ببنية تحتية دفاعية، تُرسل إشارات غير مباشرة بأن الجغرافيا المصرية ليست قابلة لإعادة التوظيف الناعم. في المقابل، لوّحت بعض الأصوات الإسرائيلية بـ(مواجهة محتملة)، في ظل تنامي قدرات الجيش المصري وتآكل الثقة في ثبات اتفاقية كامب ديفيد، ما يعكس حالة من القلق من تغيّر نمط الشراكة الإقليمية القائمة.
ومثلما طُرح ملف سيناء ضمن صيغة تفاوض إقليمي تغيب عنها المشاركة المحلية الفعلية، يُرجّح أن تُدار قضايا السودان في المنصات الدولية بنفس المنطق، حيث يُعاد ترتيب الأولويات الأمنية والحدودية دون تمثيل شعبي فعلي. هذا النموذج لا يتضمن ترحيلًا مباشرًا ولا إعادة توطين، لكنه يُعيد تعريف السيادة بوصفها قابلية للتداول تحت ضغط خارجي، ما يُضعف السيطرة الوطنية ويحوّل الفضاء الجغرافي من أداة تقرير إلى مجال قابل لإعادة التوظيف الاستراتيجي. ويتضح ذلك بشكل خاص في مناطق شرق السودان المطلة على البحر الأحمر، حيث يتقاطع الحديث عن ترسيم الحدود البحرية مع اهتمام متزايد بالممرات المائية الدولية، ما يُحوّل الشريط الساحلي من مجال سيادي إلى نقطة جذب تفاوضية مرشحة للإدارة الخارجية باسم الأمن البحري والتكامل الإقليمي.
ورغم تغليف المقترح بلغة الإغاثة، إلا أنه لم يُظهر تفاصيل ترتبط بالدعم المالي أو التمويل المباشر، ما يُثير تساؤلات حول ما إذا كانت هناك وعود بإعادة تمويل أو تحريك مساعدات مشروطة، خصوصًا في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها القاهرة. هذا الغموض يُعزز التصوّر بأن العرض يهدف إلى إعادة توزيع الأزمات الأمنية دون تقديم أدوات فعلية لتخفيفها، ما يجعله أقرب إلى صفقة ضغط سياسي منه إلى خطة إنقاذ إنسانية متكاملة.
ويُطرح في هذا السياق نموذج غزة كحالة تُدار خارج تمثيلها، في غياب الصوت الفلسطيني الحقيقي عن مسار التفاوض أو حتى عن تصور الحلول. وما يُثار حول رفح يُعيد إنتاج نمط (التفاوض دون تمثيل)، الذي لا يُستثنى منه السودان، المرشّح لنقاش مستقبله في مؤتمر الرباعية الذي يضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر. إذ يُرجَّح أن تكون الأولويات فيه أمنية وجغرافية أكثر من كونها سياسية أو نابعة من إرادة شعبية داخلية.
ومن هذا المنظور، لا يبدو الموقف المصري في هذا الملف مجرد خصوصية وطنية، بل جزءًا من معادلة إقليمية تُختبر فيها قدرة الدول العربية على الحفاظ على استقلالية القرار في وجه عروض دولية تُغلف بمصطلحات إنسانية لكنها تندرج ضمن إعادة إنتاج الخرائط الإقليمية. ما يحدث في سيناء وغزة، وما يُناقش بشأن السودان واليمن، يمثل سلسلة متكاملة من محاولات إعادة تنظيم الجغرافيا السياسية للمنطقة، انطلاقًا من منطق احتواء الأزمات وتفريغها أكثر من رغبة في حلّها جوهريًا.
المشهد الإقليمي يُظهر أن أدوات الضغط التي استُخدمت سابقًا لإدارة أزمات الجوار بدأت تُعاد تدويرها في ملفات داخلية، ما يطرح تساؤلات عن هشاشة الاستقرار وعن قدرة الدول على تفادي أن تصبح هدفًا لنفس الآليات التي ساهمت بوعي أو غيره في تشكيلها.
ما يُختبر اليوم في سيناء قد يتكرر غدًا في الخرطوم أو بنغازي، حيث تُطرح الملفات الوطنية ضمن تفاوض دولي لا يتضمّن أطرافًا محلية فعلية. والسؤال لا يتعلق فقط بمن يمتلك القرار، بل بمن يستطيع منع إعادة توزيع أزمته لصالح هندسات إقليمية أكبر منه حجمًا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة