نُشر في إحدى الصحف المصرية المرموقة، التي تضع شعارها العريض "عربية ودولية"، مقالٌ يُفترض أنه تحليلي، بقلم الكاتب المصري المقرّب من النظام أحمد عزّت. المقال يختزل الواقع المعقّد للمنطقة العربية في "توافق كامل" بين مصر والسعودية حول جملة من القضايا: فلسطين، وسوريا، وليبيا، وأخيرًا السودان
الكاتب لم يترك مجالًا للنقاش، ولا مسافةً للمشاورات أو تعدّد وجهات النظر. بل كل جملة من المقال جاءت بصيغة الجزم: لا جدال، لا تأويل. الصورة المرفقة للمقال – بابتسامة الكاتب – لا تُخفي ثقل الخطاب الفوقي الذي يطفو على سطح الكلمات
ولن أتطرّق هنا إلى القضايا السيادية في فلسطين أو سوريا أو ليبيا – فلكل شعب حق تقرير مصيره – ولكن ما يهمني في هذا السياق هو ما كُتب عن السودان.
وفق المقال، ترى القاهرة والرياض أن الأزمة السودانية هي "صراع بين الجيش السوداني وميليشيات الدعم السريع". هكذا… بكل بساطة. لا ذكر للشعب السوداني، ولا للضحايا، ولا لدمار المدن والقرى، ولا لثروات السودان المنهوبة، ولا حتى لجهود قوى الثورة لبناء بديل مدني جديد.
هذا التوصيف لا يبتعد كثيرًا عن مواقف علنية سابقة. يوم تحدّث الدكتور عبدالله حمدوك في ندوة الأهرام عن "المسكوت عنه"، جاء الرد الفوري من القاهرة للسيد البرهان: "حمدوك ده لازم يمشي". واليوم يتكرّر المنطق ذاته: من الخارج يُقرَّر من يحكم، ومن يحارب، ومن يُستبعد
لكن، ماذا يعني هذا "التوافق الكامل" فعليًا بالنسبة للسودان؟ في تقديري، هذه هي البنود الضمنية: ١. الاستمرار في دعم الجيش السوداني المؤدلج وفلول الإخوان المسلمين، سياسيًا وعسكريًا ولوجستيًا. ٢. الاستمرار في تدمير ما تبقى من البنية التحتية السودانية، بتواطؤ مع الجيش و تجاهل تام للطرف المتحارب الاخر بالرغم من انه يسيطر علي ٦٠٪ من الاراضي ٣. الاستمرار في نهب ثروات السودان، من الذهب والثروة الحيوانية والمحاصيل الزراعية، دون حسيب أو رقيب. ٤. الاستمرار في محاولات خنق تحالف تأسيس، الذي يسعى إلى بناء دولة مدنية منتجة تتيح عودة النازحين واللاجئين، وتحفظ للسودانيين كرامتهم وسيادتهم.
والأدهى من ذلك، أن المقال – وكل الخطاب المصاحب له – يُقدّم الأزمة السودانية وكأنها مجرّد "صراع يهدد الأمن العربي والمصالح المصرية". هكذا… كأن السودان مجرد بؤرة مشتعلة تحيط بها مصر وبعض العواصم العربية، لا أكثر.
أما إفريقيا – التي يجاور السودان منها سبع دول رئيسية )إثيوبيا، جنوب السودان، تشاد، إفريقيا الوسطى، إريتريا أوغندا، وكينيا (– فلا ذكر لها في المقال، ولا لمصالحها ولا لمخاوفها، رغم أنها المتأثرة فعليًا بتمدد الحرب واللجوء والفوضى. كأن القارة التي ينتمي إليها السودان لا تستحق أن تكون جزءًا من أي حساب استراتيجي.
ويبدو أن نظرة بعض النخب في القاهرة ما تزال أسيرة المزاج الذي وصفه الصحفي الساخر محمود السعدني حين كتب عن رحلته الإفريقية تحت عنوان: "السعلوكي في بلاد الإفريكي
وبين "الإفريكي" و"العربي"، تظل نظرة بعضهم إلى السودان محصورة في مقارنة غذائية: الفرق بين السوداني والمصري أن "السوداني بياكل الشطة"! أما السيادة والمصير؟ فليسا من ضمن مكونات هذه الوجبة
ولا يخفى على أحد أن هذا التوصيف الأحادي للأزمة السودانية يعكس قصر نظر استراتيجي مصري طويل الأمد فمصر، التي لم تعِ بعدُ درس سد النهضة، ما تزال تتعامل مع أفريقيا بمنطق التهميش أو الرعاية من فوق. في وقتٍ تُظهر فيه الدول الأفريقية المجاورة للسودان – مثل إثيوبيا، كينيا، أوغندا، ورواندا – معدلات نمو وازدهار مضطردة، وتحجز لنفسها مقاعد متقدمة في مشاريع الربط الإقليمي والبنية التحتية والتحول الرقمي، تظل القاهرة مشغولة بلعبة النفوذ التقليدي، دون رؤية واقعية لعالم يتغيّر من حولها
إن الاستمرار في تجاهل هذه الديناميات لا يهدد فقط الدور المصري في السودان، بل يُنذر بأن مصر تسير نحو التآكل أو التقادم في محيطها الحيوي ما لم تعِ أن زمن "الوصاية" قد ولّى، وأن أفريقيا اليوم لم تعد "بلاد الإفريكي" بل مسرح تنافس عالمي… لا يعترف بالابتسامات الفوقية.
. أحمد التيجاني سيد أحمد عضو تحالف تأسيس ١٩ يوليو ٢٠٢٥ روما – إيطاليا
هذا المقال جزء من سلسلة مقالات تحليلية ناقدة للعلاقة السودانية المصرية، والسياسات الرسمية التي تُعيد إنتاج التبعية أو الوصاية على السودان باسم الأخوة أو الأمن القومي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة