في كتابه "الشخصية السودانية بين الواقع والأسطورة"، يقودنا د. عادل عبد العزيز حامد في رحلة شاقة وعميقة نحو الذات السودانية، ليس بوصفها كينونة راسخة، بل ككائن هش يتشكل عند تخوم الجغرافيا وصراعات الذاكرة ومكر الخطاب. ولعل أهم ما يميز هذا العمل، هو جرأته في مساءلة ما دُفع إلى الهامش من سرديات الهوية، وإعادة تموضعه في مركز النقاش الفكري. السودان- هوية على سرير الأسطورة منذ صفحاته الأولى، يرفض الكتاب أن ينخرط في تجميل الذات القومية أو تطريزها بأساطير الصفاء والكرم والتجانس. فـ"الطيب السوداني" لم يكن أكثر من خطاب للتسكين، تُستخدم فيه الأخلاق لتخدير الوعي، لا لتفعيله. والأسطورة في هذا السياق، ليست اختراعًا بريئًا، بل "آلية دفاعية" تصوغها النخبة لتحجب بها التناقض البنيوي في تركيبة الدولة السودانية عربٌ يتحدثون لغة أفريقية، وأفارقةٌ يتنكرون لملامحهم، ودولةٌ تمارس مركزيتها باسم الله والوطن، بينما تهمّش كل ما عدا الخرطوم.
تصدّعات الداخل- حين تئن الذات من عزلتها التحليل البنيوي الذي يقدمه الكتاب لخصائص الشخصية السودانية ليس اجترارًا لخطاب الاستشراق الذاتي، بل تفكيك دقيق لحالة وعي مزدوجة؛ وعيٌ بالانتماء المتعدد، وخوفٌ من الاعتراف به. في هذا التردد، تنمو نزعة التواكل على الآخر، وتتكاثر الأساطير التي تخدر الفعل، وتحيل كل فشل إلى "مؤامرة خارجية". ومن أعمق اللحظات التحليلية في الكتاب، تفكيكه لنزعة "الكَدْس" كحالة ثقافية لا تهدف إلى تنمية الثروة بل حيازتها كرمز للسلطة، تمامًا كما تتكدس المناصب والرتب والشهادات في دولة لم تحسم أمرها بين الحداثة والتقليد. الأسطورة كقناع سلطوي يأتي الفصل الثالث من الكتاب كذروة فكرية: حيث تُحوّل الأسطورة من خطاب أخلاقي إلى أداة قمع. فحين يُقال إن "الشعب السوداني طيب"، فإن المطلوب فعليًا هو أن يصمت، أن يرضى، أن لا يثور. وهنا، يلتقي الكتاب مع أطروحات النور حمد في نقده لـ"التبعية الطوعية"، حيث تتواطأ النخب على ترويض الوعي الجمعي، ليس عبر القمع الصريح، بل من خلال بناء سرديات تُمجّد الركود.
ففي حين ينشغل آخرون بالسلطة العسكرية أو الإسلام السياسي كمحاور الأزمة، يقف هذا التيار النقدي، ومعه د. حامد، على جذر أعمق: من يصنع "الأسطورة"؟ ولماذا نُصدّقها رغم كل الأدلة؟ الهوية بوصفها حربًا مؤجلة حين نصل إلى اللحظة الراهنة – لحظة الحرب الشاملة – يبدو أن الكتاب قد تنبأ بالفشل قبل أن يقع. الثوار الذين غنّوا للوحدة، لم يتجاوزوا أسطورة التجانس، فانقسموا أمام أول اختبار عسكري. ودارفور التي طالما استُبعدت من خطاب المركز، عادت بلغة النار لتطالب باعتراف متأخر بالاختلاف. وهنا تبرز مقولة الكتاب الجوهرية: أن تفكك الدولة يبدأ حين تصرّ نخبتها على الكذب الجميل بدلاً من الحقيقة القاسية. من التنظير إلى الفعل: مقترحات للتحرر لا يكتفي الكتاب بالنقد، بل يتجه في خاتمته إلى الحفر في التربة الصلبة لتقديم بدائل ممكنة. يدعو إلى إنشاء "متحف للذاكرة النقدية" لا يجمّل التاريخ بل يواجهه، وإلى "ميثاق للهوية" يعترف بالتعدد ويُحرر من أسر العروبة الأحادية، ويقترح إصلاح التعليم كميدان أول لتحرير المخيلة.
تحرير الذات يبدأ من اللغة ليست المعركة التي يخوضها هذا الكتاب مع الخارج، بل مع الداخل السوداني؛ مع الكلمات التي نستخدمها لوصف أنفسنا، مع الحكايات التي نرويها لأولادنا، ومع الصور التي نعلقها على جدران بيوتنا. إنها معركة تفكيك الأسطورة كخطوة أولى نحو بناء مشروع وطني لا يقوم على الإنكار، بل على الاعتراف والتعدد والصدق.
لقد قدّم د. عادل عبد العزيز محمد حامد في هذا الكتاب نصًا غنيًا بالمساءلة، مفتوحًا على احتمالات التأويل، وضروريًا لكل من يحاول أن يفهم السودان اليوم لا بوصفه جغرافيا، بل كحقل صراعات رمزية لا يمكن تجاوزه دون تفكيك جذري للأسطورة التي صنعناها طواعية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة