دولة النهر والبحر، كما يسميها عبدالرحمن عمسيب، هي في تعريفها العمومي والمبسّط السودان القديم ما قبل الاحتلال البريطاني، وتشمل الشريط النيلي ومعه شرق السودان وشمال كردفان. وهي حدود قابلة للتعديل والنقاش، لأن الفكرة في أصلها ليست انفصالية بدوافع عنصرية أو كراهية للآخر، بل هي إصلاحية، تسعى إلى بناء نموذج ناجح يخرج من مستنقع الفوضى، يمكن للآخرين الالتحاق به طوعاً لا قسراً. وهي ليست عدوة للأقاليم المضافة، بل تسعى إلى تحفيزها عبر تنافس حميد يدفعها إلى النهوض.
الأقاليم المضافة هي: سلطنة دارفور، التي كانت مستقلة حتى ١٩١٦م، وضُمت إلى السودان بعد الاحتلال البريطاني بقرار سياسي عقب مقتل السلطان علي دينار. كذلك أُضيف جنوب السودان، وجبال النوبة، وجنوب النيل الأزرق، وقد فُرض على هذه المناطق نظام “المناطق المغلقة” لأسباب عنصرية وثقافية، تحت حجة حماية الهويات المحلية ومنع الاستيعاب القسري، من الشمال، خصوصاً فيما يتعلق بنشر الإسلام.
لماذا دولة النهر والبحر؟ لأنها كيان تعب أهله من الدمج القسري الذي فرضه المحتل البريطاني فيما يُعرف اليوم بالسودان. كيان أنهكه الاستهداف المستمر من قبل ناشطين ونخب ومليشيات مسلحة من الأقاليم المضافة، خاصة من دارفور، بحجة أن تطور إنسان الشريط النيلي، والشمالي على وجه الخصوص، تم على حسابهم. وهي فرية لا تستند إلى حقائق، فالحكومات المتعاقبة عجزت حتى عن الحفاظ على البنية التحتية التي أنشأها المستعمر البريطاني، ولم ينعم سكان الشريط النيلي بأي تمييز أو تطور خاص.
لكن حرص السكان على التعليم، خصوصاً في الشمال، فتح لهم منافذ لحياة كريمة خارج نطاق الدولة الفاشلة. كان التأهيل هو العامل الحاسم في خلق إنسان طموح، درس، واجتهد، وحقق النجاح بجهده في غربته، سواء في دول الخليج أو العالم الغربي، من دون أن يجني مثقال ذرة من ثروات وطنه، التي يُتّهم زوراً بالاستحواذ عليها. وهذا ينطبق على ٩٠٪ من المتعلمين والمستنيرين والأكاديميين من الشمال، ثم الوسط، ومعهم الحرفيون المتميزون.
وبسبب تلك الادعاءات الباطلة، التي اتُخذت كذريعة لحمل السلاح ضد الدولة، نشأت فكرة “دولة النهر والبحر” كمسعى جاد للخروج من مستنقعات الحروب، وتطوير الذات، وإعادة توطين كوادرها المغتربة، لتكون نواة دولة نموذجية مستقرة، تنمو فيها الديمقراطية ويزدهر فيها الاقتصاد، بما ينعكس إيجاباً على الشق الثاني من السودان، أي المناطق المضافة، بل وعلى جواره الأفريقي بأسره.
وهكذا، فإن فكرة “النهر والبحر” تمثل انتفاضة حقيقية ضد سودان ظل يُدار بخيال وحدوي لا صلة له بالواقع. فالدولة الحديثة لم تولد من داخل المجتمع السوداني، بل فُرضت من الخارج كنموذج دخيل ركّز على الهوية النيلية بوصفها هوية مركزية وعنوان للدولة، ولهذا فشلت الحكومات الوطنية المتعاقبة في إدارة وطن متنوع مترهل.
كان من الممكن إدارة التنوع بنجاح لو مُنحت الأقاليم المضافة سيادة ذاتية منذ لحظة الاستقلال، عبر حكم كونفدرالي للجنوب ودارفور وكل إقليم متذمر. لكن الحكومات، رغم حسن نواياها أحياناً، توهّمت أن الوحدة الوطنية لا تُبنى إلا بهوية سودانية موحدة، تُفرض بإخضاع الجميع لثقافة المركز. وبذلك تكون قد اعتبرت التعدد خللاً يجب تقويمه، لا ثراء يجب صونه. هذه الذهنية تحديداً هي التي أنتجت الحروب، بدءاً من الجنوب، ومروراً بدارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، وانتهاءاً باشتعال الوطن بأكمله.
وما زاد الطين بلة، هو العقل الذي حمل السلاح ضد الدولة باسم التهميش. هذا أمر كان متوقعاً، لكن ما لم يكن مقبولاً هو أن ينكر هذا العقل قدرة مجتمعاته، المسماة مهمشة، على النهوض الذاتي، وأن يُمنّي النفس بإسعاد الجميع عبر احتلال الخرطوم، وتأكيد تدمير العمارات، وإبادة كل دنقلاوي وشايقي وجعلي فيها، ظناً أن ذلك سينتج عنه سلطة مركزية عادلة تخلق وطناً يُذهل العالم أجمع. والحقيقة أن هذه عقلية لا تقبل بها حتى مواثيق العصور الوسطى، وتنبذها مزابل التاريخ.
هؤلاء لم يدركوا أن السودان لم يفشل بسبب تنوعه، بل لأن الذين حملوا السلاح ضد التهميش هم أنفسهم خريجو جامعات الشريط النيلي، شديدة التنوع، وحين عادوا لمجتمعاتهم وجدوها لا تشبه أحلامهم. هي مجتمعات ريفية بدوية، لا تهتم كثيراً بالتعليم. فاعتبروا هذا التفاوت تهميشاً مقصوداً، ورفضوا التنوع، طالما أن مجتمعات الدناقلة والشايقية والجعليين الحضرية لا تشبههم. ثم بالغوا في التحريض واتهام هذه المكونات بالعنصرية، فقط لأن معظم من حكموا وفشلوا، كانوا منهم. وهذا هو الجهل المدمر بعينه، وهو ما أدى إلى تلك الحرب الأهلية العرقية الجهوية الماحقة. ولذا، فإن الحل لا يكون بزيادة الزخم العاطفي، بل بتقسيم ٍ يعيد السيادة لمن انتُزعت منهم، وإلا سنظل نعيش في ويلات الحروب حتى نصبح وطناً بلا شعب، أو شعباً بلا وطن.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة