لطالما كانتْ العلاقةُ بينَ الحقِّ والباطلِ جوهرَ الصراعِ الإنسانيِّ والفلسفيِّ عبرَ العصورِ. ليستْ هذهِ العلاقةُ مجردَ ثنائيةٍ بسيطةٍ بينَ الخيرِ والشرِّ، بل هي شبكةٌ معقدةٌ من التفاعلاتِ النفسيةِ والاجتماعيةِ والسياسيةِ التي تُحدّدُ مسارَ الحضاراتِ ومصيرَ الأفرادِ. في عالمٍ تتلألأُ فيهِ الشعاراتُ البراقةُ والخطبُ الرنانةُ، وتُلقي بصدىً واسعٍ في نفوسِ المتلقينَ، يصبحُ تمييزُ الحقِّ عن الباطلِ مهمةً شاقةً، تتطلبُ تفكيكاً عميقاً للوصولِ إلى حقيقةِ تطبيقها في الواقعِ.
إغواءُ الباطلِ وسلطةُ الوهم:
إنَّ أحدَ أخطرِ مظاهرِ هذا الصراعِ يكمنُ في ميلِ البشرِ إلى الخضوعِ للباطلِ، ليسَ قناعةً بهِ، بل لأجلِ الذاتِ، خوفاً من سطوةِ مَن بيدهِ السلطةُ السياسيةُ، أو أدواتِ الإعلامِ التي تُزيّفُ الوعيَ، أو آلياتِ النفوذِ الماليِّ التي تُغري وتُرهبُ. في هذا السياقِ، يتحوّلُ الحقُّ إلى مجردِ فكرةٍ هامشيةٍ، بينما يكتسبُ الباطلُ زخماً وقوةً زائفةً عبرَ الدعايةِ والتخويفِ.
لقد تنبّهَ الفلاسفةُ منذُ القدمِ إلى هذا الواقعِ المريرِ. فـ أفلاطونُ، في أسطورةِ الكهفِ الشهيرةِ، يُصوّرُ بشراً مقيدينَ في كهفٍ، لا يرونَ إلا ظلالاً على الجدارِ يُلقيها نورٌ خلفهم، ويعتقدونَ أنَّ هذهِ الظلالَ هي الحقيقةُ المطلقةُ. وعندما يتحرّرُ أحدهمْ ويخرجُ ليرى نورَ الشمسِ (الحقيقةَ)، ثمَّ يعودُ ليُخبرَ رفاقهُ بالواقعِ، فإنهمْ يرفضونَ تصديقهُ، بل وقد يسخرونَ منهُ ويُحاولونَ قتلهُ، لأنَّ رؤيةَ الحقيقةِ تُزعزعُ يقينهمْ المريحَ بالوهمِ. هذا النموذجُ الأفلاطونيُّ يُجسّدُ بامتيازٍ خوفَ الأغلبيةِ المقهورةِ من الحقِّ؛ فالحقيقةُ غالباً ما تُلقي بثقلٍ من المسؤوليةِ وتُوجبُ التغييرَ، وهو ما يتطلبُ شجاعةً لا يمتلكها الكثيرونَ، مفضلينَ البقاءَ في ظلالِ الباطلِ المريحةِ وإن كانتْ مقيّدةً.
صوتُ الحقِّ الخافتُ وخيانةُ الذات:
في ظلِّ تنامي "الكتلةِ الحرجةِ" التي تتسمُ بثوابها التنافقيِّ وزيفها وخداعها، يصبحُ صوتُ الحقِّ منخفضاً، يكادُ لا يُسمعُ. هذا الصمتُ ليسَ بالضرورةِ نابعاً من خوفٍ جبانٍ من صدعِ الحقِّ فحسب، بل قد يكونُ نتيجةً طبيعيةً لتأثيرِ عواملِ القهرِ والضغطِ، أو حتى تبريراً نفسياً لتجاوزِ أمرٍ ما، أو مصلحةٍ ضيقةٍ. بيدَ أنَّ الصمتَ أمامَ الباطلِ هو في جوهرِهِ شكلٌ من أشكالِ الخضوعِ، يمهّدُ الطريقَ لانتشارِ الظلمِ وتفشّي الفسادِ.
والمؤلمُ حقاً، كما يُقالُ في المثلِ الشائعِ: "إنما يؤلمُ الفأسَ ليسَ الحديدُ وإنما عودها الخشبيُّ". وهكذا، ما يؤلمُ المتمسكَ بالمبادئِ والقيمِ ليسَ قوةُ الباطلِ الخارجيةُ، بل تلكَ "العيدانُ الخشبيةُ" – أيْ المقربينَ أو الرفاقُ الذينَ ينخرونَ في جسدِ الحقِّ من الداخلِ. هؤلاءِ يركعونَ لأجلِ ذواتهمْ ومصالحهمْ الضيقةِ، ويدوسونَ على شرفِ المبادئِ وقيمِ الكرامةِ، في سبيلِ نيلِ الرضا والثوابِ من الذي يملكُ قولَ الفصلِ والسلطةَ. هذهِ الظاهرةُ تُعدُّ من أشدِّ أنواعِ الخيانةِ فتكاً، لأنها تُضعفُ جبهةَ الحقِّ من الداخلِ، وتُسهمُ في ترسيخِ هيمنةِ الباطلِ.
ابنُ خلدونُ وتفسيرُ الانحطاطِ القيميّ:
يُمكنُ استلهامُ رؤى ابنِ خلدونَ في فهمِ هذهِ الديناميةِ. ففي نظريتهِ عن "العصبيةِ" ودورةِ الدولِ، يُبيّنُ كيفَ أنَّ الدولَ تبدأُ بقوةِ العصبيةِ والتماسكِ، مبنيةً على قيمٍ ومبادئَ نبيلةٍ (كالعدلِ والإنصافِ). ولكنْ معَ مرورِ الوقتِ، وتحوّلِ الملكِ إلى طبيعةٍ قهريةٍ واستبداديةٍ، تنحلُّ العصبيةُ، ويسودُ الترفُ والفسادُ، وتتلاشى القيمُ، ويصبحُ الخضوعُ للسلطةِ القائمةِ، مهما كانتْ جائرةً، هو السبيلَ الوحيدَ للحفاظِ على المكانةِ أو النجاةِ. هذا الانحطاطُ القيميُّ يُفسّرُ كيفَ يمكنُ للمبادئِ أن تُذبحَ على مذبحِ المصالحِ، وكيفَ يتحوّلُ الأفرادُ الذينَ كانوا يوماً مدافعينَ عن الحقِّ إلى أدواتٍ للباطلِ.
وعيٌ مُقيّدٌ بالخوف:
رغمَ تنامي الوعيِّ العالميِّ في العصرِ الحديثِ، بفضلِ الثورةِ المعلوماتيةِ وتيسيرِ الوصولِ إلى المعرفةِ، إلا أنَّ أزمةً حقيقيةً ما زالتْ تُعاني منها الأغلبيةُ المقهورةُ: الخوفُ من الحقِّ ذاتهِ. ليسَ هذا الخوفُ جهلاً بالحقائقِ، بل هو خوفٌ من تبعاتِ الوقوفِ مع الحقِّ؛ من مواجهةِ السلطةِ، من فقدانِ المكتسباتِ، من العزلةِ الاجتماعيةِ، وحتى من المخاطرِ الجسديةِ. إنهُ خوفٌ يُقيّدُ إرادةَ التغييرِ، ويُسهمُ في استدامةِ حالةِ القهرِ، حيثُ يصبحُ الصمتُ خياراً "أكثرَ أماناً" حتى لوكانَ الثمنُ هو الكرامةَ الإنسانيةَ وتضييعَ الحقوقِ.
في الختامِ، إنَّ معركةَ الحقِّ والباطلِ ليستْ مجردَ معركةٍ خارجيةٍ تُخاضُ في ساحاتِ السياسةِ والإعلامِ، بل هي قبلَ كلِّ شيءٍ معركةٌ داخليةٌ تُخاضُ في أعماقِ النفسِ البشريةِ. إنَّ قدرتنا على التمييزِ بينَ الشعاراتِ الزائفةِ والحقيقةِ الجوهريةِ، وعلى مقاومةِ إغراءاتِ السلطةِ والنفوذِ الماديِّ، وعلى الصمودِ أمامَ خيانةِ المقربينَ، هي التي تُحدّدُ ما إذا كانَ صوتُ الحقِّ سيظلُّ خافتاً، أم أنهُ سيرتفعُ ليُعيدَ صياغةَ واقعٍ أكثرَ عدلاً وإنسانيةً. إنَّ ثمنَ الكرامةِ باهظٌ، لكنَّ ثمنَ الخضوعِ للباطلِ أفدحُ بكثيرٍ، فهو يُفقدُ الإنسانَ جوهرَ إنسانيتهِ..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة