سؤال إلى الضمير ما بالنا يا أهل السودان، نتهاوى عند ظل نخلة واحدة في صحراء تتسع للشمس والقمر والنجوم جميعاً؟ ما بالنا نُشرِّخ جسد الوطن بسكاكين العرق واللون واللهجة، وكأنما الأرض ليست ميراثاً مشاعاً للدماء المتعانقة، بل مزرعة أسلاف تُورَّث في عروق مختارة؟
السودان ليس حكاية أحادية الحبر، بل مخطوطة كونية كُتبت بحروف من دم ودموع وتضحيات، من حلفا إلى نمولي، من الجنينة إلى بورتسودان. كتاب لا يقرأه إلا من اغتسل قلبه من أوحال التعصب، وأدرك أن التنوع ليس وصمة عار، بل هو النقش الأبدي على جبين هذه الأرض.
أيتها السياسة المستبدة أيتها السياسة المستبدة، كيف ارتقيتِ إلى عروشِك فوق جماجم الأبرياء؟ كيف تطلبين الولاء من أناس تنزعين عنهم رداء الإنسانية؟ أية دولة هذه التي تُبنى على أنقاض العدل والمساواة؟
العنصرية هنا ليست هامشاً، بل هي السرطان الذي ينخر في عظام السياسة ذاتها. إنها تحوّل الحوار إلى صراخ، وتجعل من التنافس على خدمة الوطن حرب إبادة، ناعمة تارة وخشنة أخرى، تطحن الجميع في رحاها.
بيت واحد اسمه السودان نحن لسنا قبائل متصارعة، بل أسرة في بيت واحد اسمه السودان. لو مزَّقنا خريطة هذا البيت، أين المأوى الذي يضم شماله وجنوبه، شرقه وغربه؟ ليس الشمال بأسمى من الجنوب، ولا الأوساط بأحق من الأطراف.
دعونا نُخرس ذلك الخطاب المسموم الذي يزعم تفريقاً بين "أصيل" و"دخيل"، بين "أحق" و"أدنى". الخطاب الذي يحتكر حب الوطن لنفسه وينسى أن الوطنية الحقيقية تتسع لكل الدماء التي سقت ترابه.
لغة جديدة في الصراع السياسي في لهيب الصراع السياسي الحالي، نحتاج لغة جديدة: لغة تعترف بحق كل مواطن في الأمن والكرامة والمشاركة. نحتاج مشروعاً وطنياً لا يُشيّد خنادق التفوق العرقي، ولا يقيس الولاء بالحسب والنسب، بل بالكفاءة والنزاهة وإنسانية الضمير.
تحديات الواقع وأوهام الحلول إن إنكار جذور العنصرية والتمييز الهيكلي في الدولة السودانية، الذي حوّل الأقاليم إلى بؤر للمظالم الاقتصادية والاجتماعية، هو هروب من مواجهة الجرح النازف. لقد استثمرت الدولة المركزية، خاصة في «العصر الغيهب» (عهد الإنقاذ)، في العنف الرمزي الكامن، وحوّلته إلى حروب جهادية وإبادة جماعية، متجسدة في خطاب مقيت مثل «صانع الكباب العظيم» الذي يُزيّن المآسي.
إن فشل الحركات المسلحة في دارفور وغيرها، وانغماسها في الفساد والاستخفاف بحياة الناس، لا يمحو حقيقة القضية العادلة: قضية التهميش السياسي والاقتصادي. استغلال هذه الحركات لورقة العنصرية للابتزاز لا ينفي وجود العنصرية نفسها كسبب جوهري للعنف المادي.
ومن السذاجة الفكرية المطالبة بانفصال دارفور كحل سحري. ذلك هروب من مواجهة الخلل المركزي في الدولة ذاتها، الذي سيستمر في إنتاج المظالم والمتمردين أينما كانوا. ألم ينفصل الجنوب، وما زالت الحروب تعصف بالشمال والجنوب معاً؟
إنصاف التيار الإنساني أما أولئك الذين يصفقون لغارات الطيران التي تسحق الأبرياء في مليط أو الكومة أو نيالا، ويتلذذون بخطاب «المشاوي» الوحشي، فهم لا يمثلون الشمال الحقيقي. ففي الشمال، كما في كل رقعة من هذا الوطن، يوجد تيار إنساني ديمقراطي مستنير، له تاريخه من النضال والفكر والشعر والأغاني، وله شهداؤه الذين سقطوا دفاعاً عن سودان الكرامة للجميع.
هناك تواطؤ خطير على طمس وجود هذا التيار وتصويره كله بالطيف العنصري نفسه، باختلاف فقط في «الجرأة» على الإفصاح. هذا إجحاف وتزييف للواقع.
الطريق الوحيد: مشروع وطني ديمقراطي مخرجنا من هذه الدوامة الدموية ليس في أوهام الانفصال، ولا في الاستسلام للخطاب العنصري من أي طرف، شمالاً كان أم غرباً. المخرج يكمن في مشروع وطني ديمقراطي ناضج، يقطع مع أوهام العنصريين وفساد الانتهازيين على اختلاف مشاربهم ومناطقهم.
مشروع يُؤسس لدولة المواطنة المتساوية، دولة القانون والعدالة الاجتماعية، التي تكفل التنمية المتوازنة لكل الأقاليم.
دعوة إلى اصطفاف جديد نحتاج إلى اصطفاف مدني ديمقراطي عابر لكل الحدود الإثنية والجهوية. اصطفاف يجمع طاقات الشمال والجنوب والشرق والغرب والوسط، كل المؤمنين بسودانٍ واحدٍ حرٍّ كريم. اصطفاف يرفض منطق «العنصرية» و«العنصرية المضادة»، ويبني على أساس القيم الإنسانية المشتركة والرغبة الصادقة في مستقبل أفضل للجميع.
طريق الحياة أم طريق الموت؟ فهل نختار طريق الحياة، طريق بناء الفسيفساء السودانية بإشراق ألوانها كلها؟ أم نستمر في طريق الموت، طريق تحطيمها حجراً حجراً حتى لا يبقى إلا الرماد والندامة؟
الطريق واضح: اقتلاع العنصرية من السياسة والقانون والتعليم والإعلام والقلوب، أو استمرار السقوط في الهاوية. لا طريق ثالث.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة