في صخب الحرب الأهلية الدامية التي تمزق السودان منذ منتصف أبريل 2023، لا تقتصر خطوط النار على الجبهات في الخرطوم أو دارفور، ولا على عمليات القصف والقتل والنزوح. ثمة جبهة صامتة ولكن لا تقل خطورة- جبهة البعثات الدبلوماسية السودانية المنقسمة على نفسها، التي باتت مرآةً للتشظي العميق في الدولة السودانية، بل ربما نذيرًا مبكرًا لانقسام ليبيا-style مستقبلي. فقد شهدت الأسابيع الماضية انشقاقات علنية لسفراء سودانيين على حكومة الخرطوم بقيادة عبد الفتاح البرهان، كان أحدثها سفارة السودان في المغرب، التي انضمت إلى سابقتها في أبوظبي، حيث أعلن السفير وفريقه رفضهم لسلطة مجلس السيادة.
في المقابل، يواصل قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) بناء «دبلوماسية موازية»، عبر علاقات خاصة وتمويلات وتحالفات سياسية داخلية وخارجية، طامحًا لأن يصبح ندًا معترفًا به دوليًا، وأن يحجز مقعده في مفاوضات «اليوم التالي» لتشكيل الحكومة الجديدة بعد توقف الحرب.
هذا الانقسام في السلك الدبلوماسي ليس عارضًا ولا طارئًا، بل نتيجة تراكم طويل من التسييس، والأدلجة، والانقلابات، والفشل في بناء دولة مؤسسات حقيقية. إنه، باختصار، تشريحٌ علنيٌ لعطب الدولة السودانية نفسها.
من «تمثيل الدولة» إلى «تعددية الميليشيات» لكي نفهم هذه الأزمة، لا بد من العودة إلى الجذور التاريخية. السلك الدبلوماسي السوداني، ومنذ استقلال غير مكتمل في 1956، لم يكن مؤسسة محايدة تمامًا. العسكر ظلوا يحتفظون به كأداة سلطة. وجاء حكم البشير ليحول الدبلوماسية إلى جهاز أيديولوجي إسلاموي خالص، عبر سياسة «التمكين» التي اختارت الولاء على الكفاءة.
بعد ثورة ديسمبر 2018 وسقوط البشير في أبريل 2019، حاولت حكومة حمدوك وقوى الحرية والتغيير "إزالة التمكين" جزئيًا من الخارجية، لكن هذه الجهود فشلت أمام نفوذ الدولة العميقة. وجاء انقلاب 25 أكتوبر 2021 بقيادة البرهان ليعيد السلطة بالكامل لتحالف الجيش والإسلاميين، ويعزز الولاءات الشخصية والفئوية في التعيينات.
هكذا دخلت وزارة الخارجية الحرب وهي مشلولة داخليًا، منقسمة بين:- تيار موالٍ للجيش والإسلاميين (البرهان).
عناصر محسوبة على القوى المدنية والثورية.
كوادر تنتظر التفاهم مع قوات الدعم السريع أو القوى الإقليمية.
الحرب الأهلية: من سفير إلى «أمير حرب دبلوماسي» الحرب التي اندلعت في 2023 دمّرت سيطرة الدولة المركزية، وأطلقت يد البعثات الدبلوماسية للعمل كـ«دول مصغرة».
السفراء في الخارج لم يعودوا يتلقون تعليمات واضحة، أو حتى تمويلاً من الخرطوم المفلسة.
بعضهم أعاد تموضعه بشكل مستقل، وأعلن ولاءه لـ«الشعب» ضد البرهان، كما حدث في المغرب وأبوظبي.
آخرون ينسقون مع حميدتي والدعم السريع، الذي يطمح إلى تأسيس «دبلوماسية موازية» تدعمه في مفاوضات وقف الحرب وتقاسم السلطة.
هذا التحول حول السفراء إلى شخصيات سياسية فاعلة بذاتها
قادة سياسيون: يتفاوضون مع الدول المضيفة، يسعون لبناء تحالفات، ويقدمون روايات مختلفة عن الحرب.
ممولون ذاتيون: يبحثون عن تمويل خارجي، أو يحولون القنصليات إلى شركات تجارية (كما في حالات سابقة في تركيا والصين).
وسطاء معلومات: يحملون وثائق سرية، ويملكون أوراق ضغط تفاوضي هائل.
إنها ظاهرة «Warlord Diplomacy»: دبلوماسية أمراء الحرب بامتياز، حيث تُستخدم السفارات كساحات نفوذ وصراع شرعيات.
الخصخصة والتدخلات الخارجية: التمويل السياسي كسلاح ليس سرًا أن الانقسامات الدبلوماسية تغذيها وتستغلها قوى إقليمية ودولية.
الإمارات ومصر اتهمتا بدعم السفراء المنشقين بالمال، لضرب شرعية البرهان وإضعاف مركزه في الحرب.
في المقابل، تستخدم تركيا وقطر منظمات المجتمع المدني وشبكات الإسلاميين للتأثير.
روسيا تستثمر في الوصول إلى الذهب والنفط عبر اتفاقات سرية مع قادة الفصائل أو السفراء أنفسهم.
والأخطر أن الميزانية الرسمية لوزارة الخارجية السودانية شبه معدومة، ما دفع السفارات إلى خصخصة عملياتها:
الاعتماد على أموال المخابرات الدولية وشركات العلاقات العامة الغربية لشراء الولاءات.
تمويل رجال أعمال مرتبطين بمليشيات.
منظمات دولية تشترط تبني أجندات سياسية أو حقوقية.
إنها «خصخصة الدبلوماسية»: حيث تتحول البعثات من أدوات خدمة عامة إلى شركات سياسية تبحث عن ممولين.
ازدواجية الشرعية وصراع السرديات هذه الفوضى أدت إلى ما يسميه الدبلوماسيون بـ«ازدواجية الشرعية».
البرهان يصر على أنه الرئيس الشرعي المعترف به أمميًا، لكنه يعاني من فقدان السيطرة على 70% من الأراضي السودانية، وتحالفه مع فلول البشير المكروهين دوليًا.
حميدتي، في المقابل، يروج لخطاب «الشعوب السودانية» بدل الشعب الواحد، داعيًا إلى حكومة «واسعة الطيف»، لكنه يفتقر إلى مؤسسات دولة بديلة، وسمعته الدولية ملوثة باتهامات جرائم ضد الإنسانية.
المفارقة الكبرى أن المجتمع الدولي يعترف رسميًا بحكومة البرهان، لكنه يتفاوض مع حميدتي كند متساوٍ، ما يترك السفراء في الخارج ممزقين بين سرديتين متضادتين.
المعلومات السرية كسلاح حرب من أخطر جوانب أزمة الانشقاقات الدبلوماسية هو ما يحمله السفراء المنشقون من وثائق سرية.
هذه الوثائق قد تستخدم في الابتزاز السياسي، بكشف صفقات سرية أو علاقات مشبوهة مع دول.
يمكن بيع البيانات الاقتصادية لشركات استخباراتية لتمويل الحرب.
أو استخدامها لتدمير سمعة النخب عبر تسريبات إعلامية.
هذا الخطر جعل وزارة الخارجية السودانية أكثر تفككًا، وفاقم انعدام الثقة بين الدبلوماسيين، بل حول أرشيف الدولة نفسه إلى سلاح في صراع الشرعيات.
سيناريوهات المستقبل: الطريق إلى «اليوم التالي» مع استمرار الحرب، كل طرف يحشد سفراءه لتحضير «اليوم التالي» في المفاوضات.
البرهان يسعى لتأكيد أنه «الممثل الشرعي الوحيد».
حميدتي يريد حجز مقعد على طاولة المفاوضات كقائد أمر واقع.
الدول الإقليمية تتدخل لترتيب شكل الدولة القادم بما يخدم مصالحها.
السيناريوهات المطروحة مخيفة:-وهي تمزق ليبي: انقسام دائم في السفارات بين حكومتين، واعتراف دولي مزدوج. هيمنة إقليمية: فرض حكومة ائتلافية عبر التمويل الخليجي وتوحيد السلك الدبلوماسي تحت وصاية. ثورة مضادة: تحالف الجيش والإسلاميين لعزل السفراء المنشقين، وإعادة «أسلمة» الوزارة بقوة.
ما العمل؟ توصيات صعبة لما بعد الحرب إذا أراد السودانيون بناء دبلوماسية تمثل دولة لا ميليشيا، فلا مفر من إصلاح جذري:
البعد التحدي الحل المقترح الهيكلي تعدد الولاءات حل الوزارة الحالية وتشكيل هيئة انتقالية برقابة دولية. القانوني غياب المحاسبة قانون يجرم تسريب الوثائق وتمويل الانشقاقات. التمثيلي صراع الشرعيات ربط الاعتراف الدولي باتفاق سلام شامل. الأمني خطر المعلومات السرية خلية سيبرانية لحماية الأرشيف الدبلوماسي.
الدبلوماسية مرآة لروح الدولة في النهاية، أزمة السلك الدبلوماسي السوداني ليست شأناً تقنياً أو إدارياً فقط. إنها انعكاس صارخ لحقيقة أن السودان نفسه دولة لم تكتمل.
دولة أسيرة لهيمنة العسكر على السياسة.
اقتصاد ريع (ذهب، نفط) يغذي الصراعات.
تدخلات خارجية تستخدم «دبلوماسية الشيكات» لشراء الولاءات.
نخبة سياسية عاجزة عن تمثيل التنوع أو بناء عقد اجتماعي جديد.
لن تُصلح الدبلوماسية السودانية إلا بإعادة اختراع الدولة نفسها، ككيان جامع لكل مكوناتها، خاضع لحكم القانون، مستقل في قراره، ويعبر حقًا عن شعبه.
حتى يحدث ذلك، ستبقى السفارات السودانية في الخارج ساحات صراع لا جسورًا للتواصل بين الشعوب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة