لم تكن زيارة وفد حزب الأمة القومي إلى رئيس الوزراء الدكتور كامل إدريس مجرّد لقاء بروتوكولي، بل كانت بمثابة إعلان ناعم لاستعادة الروح، وبداية رحلة شفاء من جراح طالت، وعلل كادت تجهز على حزب ظلّ لعقود ضمير الأمة ومرآة وعيها السياسي. الزيارة التي ترأسها محمد عبد الله الدومة، برفقة ثلة من نوابه وقياداته، بدت وكأنها نفَسٌ أول لحزب قرر أن ينتزع نفسه من ركام الاصطفافات المريبة، ويقف من جديد تحت شمس الوطن، لا في ظلال المليشيات.
في لحظة وطنية نادرة، انحاز الوفد إلى صوت الدولة، إلى شرعية المؤسسات، لا إلى خنادق المرتزقة ولا إلى مشاريع الجيوب والسلاح المنفلت. تحدّثوا عن وقف الحرب، عن بناء مشروع وطني جامع، عن التوافق لا الإقصاء، عن الوطن لا عن الولاءات العابرة. هكذا تحدث حزب الأمة، حين يتذكر تاريخه وينصت إلى إرث المهدي، لا إلى وسوسة الطموحات الصغيرة.
وما يزيد من أهمية هذه الخطوة أنها جاءت متزامنة مع تحركات لإقالة اللواء معاش فضل الله برمة ناصر الرئيس المؤقت للحزب بعد رحيل الإمام الصادق المهدي، وقد مثّل برمة – في وجدان الكثيرين من أبناء الحزب – لحظة انفصال عن الخط القومي، وانجرافاً مقلقاً نحو خطاب جهوى وتحالفات رمادية، بلغت مداها في محاولاته البائسة لإضفاء شرعية سياسية على حكومة مليشيا الدعم السريع “الموازية”، مستنداً إلى حلف واهٍ مع مجموعة “قحت – حمدوك” التي وجدت نفسها تنسج خيوطاً من هواء في عتمة المنفى.
لقد غلّف الانتماء الجهوي العنصري عقل برمة، حتى أمسك بتلابيبه، فصار لا يرى إلا من ذلك الثقب الضيق الحرج، ولا ينطق إلا بما يُملى عليه من مراكز النفوذ الظلامية التي ترتزق من دماء الأبرياء. فمن ذا الذي يصدّق أن ضابطًا خدم تحت راية القوات المسلحة، يمكن أن ينقلب عليها بهذا القدر من الحقد والنكران؟
إن برمة، الذي قضى عمره في ظلال المؤسسة العسكرية، خلع عنه قيمها يوم خلع بزته. لم يبقَ فيه من “اللواء” إلا الاسم، أما الانضباط والولاء والشرف، فقد أودعها في خزائن النسيان، وراح يمارس دور المُعلِّق السياسي على قناة ميليشيوية، يُسَوِّق الأكاذيب، ويُبرر الجرائم، ويرقص على جراح وطنٍ تتآكله النيران من كل صوب.
لكن نهر الحزب العتيق لا يُختطف بسهولة. لقد قاوم التيار الموحل، وها هو اليوم يضخ الحياة في مجراه من جديد، بفضل قياداتٍ رفضت أن تكون بوقًا لمليشيا أو ذيلاً لتحالفات هشّة. اجتماع بورتسودان كان استفتاءً داخليًا على روح الحزب، وبيان ولادة ثانية لكيانه القومي الذي لا يبيع مواقفه في أسواق الدم.
الآن، تقع على عاتق هذه القيادات مسؤولية تحرير الحزب من أسر المرحلة الرمادية، وتحويل لحظة الصحوة إلى مسار دائم. وإذا ما تلاقت هذه الجهود مع حضور الفريق عبد الرحمن الصادق المهدي – بما يحمله من رمزية وعقلانية – فإن حزب الأمة سيكون قادرًا على أن يخرج من محنته لا مُثخنًا، بل أكثر صلابة وأوضح بوصلة.
إن حزب الأمة، إذا نهض، لا ينهض وحده، بل تنهض معه فكرة الوطن، وتنتعش في ظله آمال السلام والتعافي، وتعود السياسة إلى معناها النبيل. ولعل اجتماع بورتسودان كان تذكيرًا بأن النهر، وإن تعكّر ماؤه يومًا، لا يلبث أن يستعيد صفاءه إذا عادت إليه ينابيعه الصافية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة