المقال السادس: من "السودان تبعنا" إلى صفقات الرمال والدماء د. أحمد التيجاني سيد أحمد
تحالف تأسيس، دقلو، والرمال النادرة: كيف أربك السودان الجديد مركز القرار في القاهرة؟
منذ فجر التاريخ الحديث، ظلّ الاعتقاد الراسخ لدى صُنّاع القرار في مصر أن السودان "تابع لهم" — مقولة شهيرة ردّدها الساسة المصريون، واعتبروها من المسلّمات التي لا تقبل المراجعة أو النقاش. فمن عهد محمد علي وحتى عهد عبد الفتاح البرهان، الذي جرى تصعيده بدعم مباشر لتحقيق مطامع القاهرة، عملت الدولة المصرية على ترسيخ هذه الهيمنة بشتى الوسائل الناعمة والخشنة.
لكن الأرض التي ظنّوها ساكنة، لم تلبث أن اهتزّت تحت أقدامهم. فقد أنجبت حوّاء السودان رجالًا لا يُستهان بهم، من أولاد دقلو الذين يتقدّمون كجزءٍ مهمٍ من قيادة تحالف تأسيس، إلى قوى شبابية ومدنية ومسلحة تمثّل الهامش التاريخي، وتمتد كشوكة حوت لا يمكن احتواؤها.
لم تعد أدوات القاهرة القديمة صالحة. ولم تعد “البندقية الخانعة” التي بشّرت بها الباحثة المصرية أماني الطويل كوسيلة لضمان استقرار السودان مقبولة، بل باتت مرفوضة شعبيًا وسياسيًا. حين تقول الطويل إن "السودان لا يُحكم إلا ببندقية خاضعة لمصر"، فإنها تعبّر عن ذهنية استعمارية أمنية تنظر إلى السودان كحديقة خلفية، لا كشريك سيادي.
ومع تصاعد خسائر مصر من الحرب السودانية – التي بلغت وفق وزير التجارة والصناعة المصري أحمد سمير أكثر من 45 مليار دولار – بدأت القاهرة تُعيد رسم خرائطها. لم تنتظر نهاية الحرب. بل اتجهت إلى التفاهم المباشر مع من تراه فاعلًا على الأرض: الفريق عبد الرحيم دقلو، قائد ثاني قوات الدعم السريع.
في تصريح رسمي بثّته الإذاعة القومية المصرية، أعلن الوزير عن فتح قنوات تواصل مع عبد الرحيم دقلو في إطار ما سمّاه "دفع عجلة السلام"، لكن التصريح حمل ما هو أعمق بكثير: اعترافٌ ضمني بأن مصالح مصر لا يمكن أن تنتظر الدولة السودانية، ولا حتى وحدتها، بل يجب أن تستمر بأي وسيلة – ولو على ركام الخراب.
الرمال النادرة شمال السودان – الثروة الاستراتيجية التي تدخل في الصناعات النووية والإلكترونيات الدقيقة – كانت ضمن قائمة "الكنوز" التي استعرضها الوزير المصري على الهواء مباشرة. من اللحوم الحية إلى المعادن، من العقود المجمدة إلى المصانع المتوقفة، بدت مصر وكأنها تحصي خسائرها، لا في الأرواح، بل في الأرباح.
وحين تتحوّل مفردات مثل "التعاون التجاري الأمني" و"توفيق الأوضاع الحدودية" إلى غطاء دبلوماسي لشراكة مع مليشيا مسلحة، فإن المشهد لم يعد غامضًا. إنه واضح كالشمس: "أنتم تسيطرون على الأرض، ونحن نحتاج الموارد – فلنتفاهم".
هكذا تُفكك الدولة قطعة قطعة، من غير أن يُطلق العدو طلقة واحدة.
لكن المشهد ليس سوداويًا بالكامل. فثمة قوى صاعدة، قوى تأسيس، وقوى الثورة، وأبناء الهامش، يعيدون رسم المشهد من جديد، ويجبرون القاهرة، والرياض، وواشنطن، وكل المتدخلين، على مراجعة حساباتهم.
المعادلة تغيّرت، وصيغة "السودان تبعنا" انتهت. واليوم، لم يبقَ أمام من اعتادوا التوجيه من علٍ إلا خيارٌ واحد: التفاوض بندّية، مع شعب لم يعد يُدار من الخارج، ولن يُختزل في صفقة رمال أو بندقية خاضعة.
مصر يا أخت بلادي… افهمي أن السودان تغيّر
ما يحدث اليوم ليس خلافًا حدوديًا، بل تصحيحٌ لمسار قرنٍ كامل من الوصاية المبطّنة. من كان بالأمس تابعًا في كتب الجغرافيا، هو اليوم نِدٌ في معادلة التاريخ والسيادة. فلا تجربي معنا أساليب التجويع، ولا المراوغة عبر السلاح أو الأنابيب أو رجال الظل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة