كتب لي ابن أخي تعليقاً بعد أن تحدّثتُ عن تهديدٍ تعرّضت له من أحد المتطرفين، قال فيه: (نعل الله الكيزان والقحاته والجنجويد وممولهم الرئيسي دويلة الشر، وكل من خان الوطن.. المهم نتفق على ما بين القوسين، والباقي كله يهون).
هذا التعليق ليس مجرد رأي عابر، بل هو انعكاس لمزاج عام آخذ في الانتشار، خاصة بين الشباب، بفعل التكرار الإعلامي والدعاية الممنهجة التي تعمل، منذ سقوط نظام الإنقاذ، على ترسيخ خطاب خطير في الوعي الجمعي، جوهره: أن الجميع سواء في الخراب، وأن لا أحد يملك تفويضاً أخلاقياً أو سياسياً لتغيير الواقع أو تجاوزه.
لقد بات من المألوف في الخطاب العام، أن تُذكر الكيانات المختلفة ـ الكيزان، القحاته، الجنجويد، دويلة الشر ـ في سطر واحد، وكأنها كتل متطابقة في النوايا والأفعال. هذه "المساواة في الشر" تبدو، في ظاهرها، تعبيراً عن سخط شعبي مشروع، لكنها في جوهرها إعادة إنتاج لخطة إعلامية مدروسة، تهدف إلى طمس الحدود بين الضحية والجلاد، وتشويه صورة القوى المدنية والثورية، وحرمان الناس من الإيمان بجدوى التغيير.
تزييف الوعي عبر "التسوية الأخلاقية"
حين نضع في سلة واحدة "الكيزان" و"القحاته" و"الجنجويد"، فإننا نردد ـ دون وعي ـ ما يروّج له الإعلام المضاد للثورة: أن الجميع سواء في الفساد والجريمة. والنتيجة أن ييأس المواطن من البدائل، ويقتنع ـ في لا وعيه ـ بأن لا فائدة من أي مشروع سياسي جديد. هذه ليست نكتة سوداء، بل واحدة من أخطر آليات تزييف الوعي: أن يُصبح الخراب قدراً عاماً لا مفرّ منه، وأن يتحوّل الفساد إلى قاعدة بشرية لا استثناء لها.
لكن الوقائع ـ على الأرض ـ تقول غير ذلك.
التمييز بين الفاعلين والمواقف
قوى الحرية والتغيير (قحت)، على عِلاتها وسوء تقديراتها، واختلاف التقييمات لأدائها، لم تطلق الرصاص على المتظاهرين، لم تسجن أو تعذب أحداً، لم تبنِ بيوت أشباح، ولم تفتعل حرباً. بل ظلّت ـ منذ اليوم الأول ـ تدعو إلى الحل السلمي، وترفض عسكرة الدولة، وتدافع عن المسار المدني الديمقراطي. فهل يُعقل أن نُساويها بمن حكم السودان ثلاثين عاماً بالقهر، وبمن أسّس مليشيات الجنجويد، وارتكب المجازر، وفضّ الاعتصام؟
أما ما يُطلق عليه "دويلة الشر"، فقد تحوّل في الخطاب الإعلامي الرسمي إلى شمّاعة تُعلّق عليها كل الهزائم والإخفاقات. عبارة مستهلكة، لا تخدم سوى هدف واحد: التعمية عن الأسئلة الجوهرية. من أشعل هذه الحرب؟ من يرفض وقفها؟ من يستثمر في استمرارها؟ ومن يُوظف الإعلام لتشويه كل من يدعو إلى السلام؟
الوطنية لا تعني العمى
الوطنية ليست أن نشتم الجميع، بل أن نُميّز. أن نعرف من دمّر الوطن، ومن حلم بإصلاحه. أن نضع المسؤولية حيث تستحق، لا أن نُوزّعها بعدل زائف على الجميع. حين نُساوي بين الثورة والانقلاب، بين المدني والعسكري، بين من دعا للسلم ومن حمل السلاح، نكون قد انحزنا، لا للحق، بل للضياع والباطل، أردنا ذلك أو لم نرد.
في النهاية، أتمنى ألا نكون ضحايا لهذا التضليل المنهجي، وأن نُدرك أن التمسك بالحقيقة، وتمييز الظالم من المظلوم، ليس انحيازاً أيديولوجياً، بل هو الحد الأدنى من الشرف الوطني.
فلا تسمحوا لمن أحرق هذا الوطن أن يقنعكم بأن الجميع خانوه. فبعضهم ـ فعلاً ـ خان، لكن بعضهم الآخر مات وهو يحلم به... بوطنٍ حر، ديمقراطي، تسوده قيم الحرية والسلم والعدالة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة