– وجهة نظر في ظل انهيار مؤسسات الدولة بسبب الحرب التي يعيشه السودان، تبرز دعوات لتشكيل حكومة انتقالية تملأ الفراغ السياسي وتعيد الحد الأدنى من الخدمات للمواطن. إلا أن هذه الرغبة المشروعة، إذا لم تُدار بوعي استراتيجي شامل محسوب وبحكمة، قد تتحول إلى مصدر جديد للانقسام بعد وحدة الشعب مع قوات الشعب المسلحة، بدلًا من أن تكون مدخلًا للتعافي وإعادة البناء.لقد أثبتت تجارب الدول الخارجة من الحروب والنزاعات أن لحظة ما بعد الحرب ليست فقط لحظة لتوزيع السلطة، بل هي لحظة تأسيس جديدة تتطلب مقاربات وتفاهمات لتجاوز أخطاء الماضي وأسباب النزاعات، تنطلق من قراءة لأخطاء الماضي، وأسباب العنف والصراعات، والتوازنات الاجتماعية المعقدة والمناطقية والجهوية، بجانب المعايير الموضوعية كالكفاءة العلمية والخبرات. فكل حكومة تُشكل دون معالجة البُنى العميقة للصراع، تتحول سريعًا إلى كيان هش يفتقر إلى الشرعية ومصدر للنقد، وتزيد من حدة الاستقطاب. إن ما يعيشه السودان اليوم لا يشبه ظروف "انتقال سياسي عادي"، بل أقرب إلى وضع دولة ما بعد الانهيار. المؤسسات منهارة، العاصمة محطمة، الولاءات موزعة، والمجتمع مفكك بفعل السلاح والعنف والانقسام الجهوي والسياسي. في مثل هذه الحالة، فإن أي محاولة لتشكيل حكومة دون مراعاة لهذه التعقيدات، ستكون إما مغامرة أو تجاهلًا متعمدًا لحقيقة الأوضاع. إن وحدة الشعب السوداني التي ظهرت في لحظة فارقة حين توحدت قطاعات واسعة من المواطنين مع القوات المسلحة لرد خطر التفكك، تمثل رصيدًا وطنيًا لا يجب التفريط فيه، بل المطلوب هو البناء عليه لتأسيس تعاقد اجتماعي جديد، لا أن يُستغل لإنتاج حكومة ترضيات غير مدروسة، تعيد إنتاج الأزمة تحت عناوين مختلفة.إن أخطر ما يمكن أن يحدث في المرحلة الحالية، هو أن تتحول الحكومة الجديدة إلى وسيلة لتوزيع النفوذ بين النخب، بدلًا من أن تكون أداة لإنقاذ الدولة والبلاد. لقد أشار أحد الكُتّاب، د. أليكسي جورافلييف، في قراءة نقدية لخطاب رئيس الوزراء الحالي، إلى أن "السودان الآن بحاجة أولًا: إلى إعادة بناء مركز السلطة، لا مجرد تشكيل وزارات. فالسلام لا يتحقق بإعلان النوايا، بل بتفكيك شبكات العنف، ونزع السلاح، وتحييد الولاءات المسلحة، ومعالجة جذور الصراع، والتهميش، والظلم التاريخي، وغياب العدالة". وفي ظل غياب تصور أمني شامل، ووضوح آليات الحكم والتمثيل، فإن أي تشكيل لحكومة سيفتقد إلى ركيزة الشرعية الواقعية، لا سيما في ظل تراجع دور الدولة في تقديم الخدمات. إن ما يحتاجه السودان ليس فقط حكومة، بل رؤية متكاملة تعالج الأولويات الحقيقية، وأولها: إعادة بناء الثقة بين المكونات المجتمعية، صياغة خريطة طريق أمنية قبل الخوض في الترتيبات السياسية، إطلاق حوار وطني أو ورشة تضم مكونات مختلفة جادة تسبق أي تشكيل حكومي، تبني حكومة انتقالية مصغرة (حكومة أزمات) ذات طبيعة تنفيذية خدمية، لا سياسية، ولا أيديولوجية، والاستفادة من تجارب الدول المشابهة التي سبقتنا في النزعات والحروب ثم أعادت التوازن بالتدرج والانضباط، لا بالاستعجال والمزايدات ختامًا، السودان في لحظة مفصلية لا تحتمل التسرع ولا المغامرة. إن تشكيل الحكومة ضرورة، لكن الحفاظ على وحدة البلاد وتماسكها ووحدة الشعب السوداني هو الأولوية القصوى. فالدولة لا تُبنى بالرغبات، بل تُصاغ من رحم الواقع، ومن فهم عميق للمجتمع، ومن شراكة وطنية تُقدّم الوطن على كل اعتبار.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة