تشهد الدبلوماسية العربية صراعاً صامتاً لكنه بالغ الأهمية حول مستقبل قيادة جامعة الدول العربية، مع اقتراب انتهاء ولاية الأمين العام الحالي أحمد أبو الغيط. تتصاعد خلف الكواليس معركة نفوذ تتجاوز مجرد اسم من يخلفه إلى أسئلة جوهرية عن هوية النظام الإقليمي العربي، وموقع كل عاصمة فيه. الأطراف الرئيسية- بين الاستمرارية والصعود مصر آخر قلاع المركز التاريخية للجامعة المرشح سامح شكري، وزير الخارجية المصري السابق، شخصية دبلوماسية تقليدية تُجسد "الامتداد التاريخي" لدور مصر في العمل العربي المشترك. الدلالة تحتفظ القاهرة بمقر الجامعة العربية منذ تأسيسها عام 1945 على يد السفير عبد الرحمن عزام، وتعاقب قياداتها (رياض، عبد المجيد، موسى...) عكس مكانتها كمركز القرار العربي لعقود. التحدي تواجه مصر ضغوطاً غير مسبوقة من قوى الخليج، إذ يُنظر إلى أي نقل للمقر بوصفه "نقل العاصمة الرمزية للعالم العربي" من الحواضر التاريخية إلى الخليج. وفي الوجدان المصري، يمثل ذلك نهاية عصر الدولة المركز، لا مجرد خطوة إدارية. السعودية- "المرحلة السعودية الجديدة" تبحث عن مركز رمزي المرشح= عادل الجبير، وزير الدولة للشؤون الخارجية، دبلوماسي محترف صعد بخبرته وليس بنسب ملكي، ويُعد من أبرز وجوه الدبلوماسية السعودية الحديثة. الرسالة ترشيحه يعكس توجه المملكة نحو تقديم قيادة "وظيفية وفعالة" للعمل العربي، تتسق مع مشاريع التحديث الكبرى (رؤية 2030)، والتحول نحو مركز مالي–سياسي ديناميكي.
*المطلب المفصلي تسعى الرياض لنقل مقر الجامعة من القاهرة إلى أراضيها، في ما يمكن اعتباره تكريساً للدور القيادي الجديد للخليج، لا سيما في ظل أزمات مراكز القوى التقليدية (سوريا، العراق، مصر). الإمارات شبكة التحالفات المرنة بدل الهيمنة المركزية المرشح الدكتور أنور قرقاش، مستشار رئيس الدولة ووزير الدولة السابق للشؤون الخارجية، المعروف بأسلوب "الدبلوماسية الحذرة" والتكتيك السياسي المتماسك.
الهدف تسعى الإمارات لتأكيد دورها كقوة ناعمة إقليمية، تدير أزمات معقدة (كاليمن والسودان وليبيا) عبر شراكات استراتيجية لا عبر التفرد. تمثل قرقاش بوصلة لهذه المدرسة، التي ترى في الجامعة منصة يجب تطويرها لا السيطرة عليها.
البعد الخفي رغم التحالف الاستراتيجي بين الرياض وأبوظبي، يُعد ترشيح قرقاش منازلة ضمنية لاحتكار السعودية لمقعد القيادة، في ظل تباينات غير معلنة في ملفات مثل التطبيع، العلاقة مع إيران، وإدارة التنافس الاقتصادي.
نقل المقر-- معركة السيادة الرمزية السعودية- تقدم نفسها كمقر بديل أكثر حداثة وقدرة على التمويل، وتعتبر استضافة الجامعة تتويجاً لمرحلة جديدة من الريادة السياسية والاقتصادية الخليجية. مصر - ترى أن الأمر يتعدى البعد الإداري إلى السيادة والهيبة التاريخية، فالمقر رمز لزمن كانت فيه القاهرة عاصمة القرار العربي، وتفريطها فيه يُعد خضوعاً لواقع لم تقره رسمياً بعد. دول أخرى- قطر: قد تؤيد النقل جزئياً، لكونها حريصة على تقليص المركزية المصرية–السعودية. الجزائر: تتمسك بالثوابت القومية وتتحفظ على تغيير المقر أو ما يشير لتفكيك الإطار التقليدي للجامعة. التحليل الاستشرافي: هل نحن أمام جامعة عربية جديدة؟ تحول في موازين القوى صعود دول الخليج يعكس تحولاً بنيوياً داخل النظام العربي، فبينما كانت مصر وسوريا والعراق مراكز الثقل، أصبح المال الخليجي، والاستقرار النسبي، والإرادة السياسية السعودية–الإماراتية هي العوامل الحاسمة اليوم. من صراع كفاءات إلى صراع رؤى المرشحون الثلاثة مؤهلون دبلوماسياً، لكن المعركة لا تدور حول الكفاءة بقدر ما تتمحور حول-من يتحكم في أجندة العمل العربي؟ هل تبقى الجامعة صوتاً رمزيًا، أم تتحول إلى أداة إقليمية وظيفية مرتبطة بالمشاريع الخليجية الجديدة؟ أدوار القوى الكبرى واشنطن تميل لتعزيز الدور السعودي بوصفه حليفاً مركزياً. بكين تراقب عن كثب، لا سيما مع تنامي الشراكات مع الخليج. موسكو تحتفظ بعلاقات متوازنة مع مصر والخليج، وقد تلعب دورًا توفيقيًا في الكواليس. الملفات الإقليمية الضاغطة تصعيد في غزة، التوتر مع إيران، ومآلات السودان وليبيا كلها تُلقي بثقلها على القرار. فالتوافق في الجامعة سيكون أكثر إلحاحاً إذا اقتضت الضرورة الأمنية مواقف موحدة، مثلما حدث في قمم الطوارئ السابقة. الاقتصاد كأداة حسم السعودية، التي تحتضن صندوق النقد العربي، وتفعّل شبكات تبادل حر خليجية، تستخدم نفوذها المالي كأداة ضغط غير مباشرة لتعزيز ترشيحها وربما نقل المقر أيضاً. سيناريوهات محتملة استمرار مصر في القيادة قد يحدث بتوافق هش، يجدد لسامح شكري أو مرشح مصري آخر، مقابل تنازلات سياسية أو اقتصادية خليجية.
مرشح "توافقي" من دولة ثالثة- مثل تونس أو الأردن، يعيد سيناريو عام 2001 حين عُين عمرو موسى بعد تجاذب خليجي–مصري. تأجيل القرار وقد بسبب عدم التوافق، يُمدد لأبو الغيط مؤقتاً، لحين تهدئة الصراعات الإقليمية.
الانقسام الصامت يُحسم الترشيح شكلياً لكن تُفعّل أدوات موازية للعمل العربي خارج الجامعة، كما تفعل الرياض وأبوظبي في تحالفات مستقلة. الجامعة في لحظة مفصلية المعركة على أمانة جامعة الدول العربية، وعلى مقرها، ليست مجرد خلاف دبلوماسي. إنها مرآة لانقلاب الموازين داخل النظام العربي، بين قوى صاعدة تمتلك الموارد والخيارات، وقوى تاريخية تملك الرمزية ولكنها منهكة. القرار القادم سيحدد إن كنا أمام انبعاثٍ للجامعة، بقيادة تتماشى مع التحولات الجارية، أم أمام مؤسّسة تفقد حتى رمزيتها في خضم صراع النفوذ.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة