منذ البداية يعلق الكائن المتمدين في التوجيهات الذهنية لمؤسسته الاجتماعية التي تبدأ من الأم والأب؛ اللذان يبحثان من خلال الطفل عن معنى لوجودهما العبثي، فيجتهدان لوضع خطة لمسار طويل ينتهي -كما يتصوران- لغاية كبرى. في الغالب تبوء تلك الخطط بالفشل الذريع، وينتهي الأمر بالإنسان (الذي كان طفلاً يوماً) إلى وضع مختلف تماماً عما تصوراه. ثم ينخرط بدوره في حضوره العبثي الذي تم تزييف معنى وغرسه في دماغ ذلك الطفل. ومن هنا يأتي الاختلاف المهم بين المجتمعات غير المتمدينة مع تلك المتمدينة، فالمجتمعات غير المتمدينة والأكثر توغلاً في البدائية، لا تضع خططاً معقدة لأطفالها، فهي لا تفكر كثيراً في المعنى، وكلما توغل الإنسان في البدائية حتى وصل لمرحلة الحيوانية، كلما فقد اهتمامه بالمعنى الكلي لوجوده في الوجود واهتم أكثر باشباع غريزة البقاء عبر البحث عن الطعام والشراب دون خطط مسبقة وما يمكن أن نطلق عليه (رزق اليوم باليوم). أما المدنية فإنها تخلق ذلك القلق الوجودي الذي يفضي إلى البحث عن معنى ليس فقط في الحاضر بل حتى في الماضي، فيتعقب البشر الآثار، والبرديات ويحاولون فك طلاسم اللغات المندثرة، واستكشاف الجغرافيا التاريخية، بل حتى غزو الأقاليم البعيدة الذي يمهد للامبرياليات التاريخية العظمى كالفتوحات الشرق أوسطية القديمة والأوروبية الحديثة، وتتنمط تلك المعاني المختلقة في شكل آيديولوجيات (مادية وغيبية) لضبط المنهج الفكري للفرد والجماعة، ومن ثم تعميق معنى وجودي مختلف لا يُرضي فقط ذلك الشعور بالقلق بل يشرعن للتنوير عبر الغزو والاحتلال. وهكذا فإن البحث عن معنى هو عاطفة مدنية، ترتبط بالخصائص الاقتصادية والثقافية للمجتمعات، والتي تنعكس في ذات الفرد وتملؤه. ومن هنا يتم نحت مفردات تعبر عن فكرة التفرد من أجل إيجاد المعنى كمفردة "الشغف". الشغف هو عاطفة موجهة نحو شيء ما. وأقول موجهة لأنها عاطفة يمكن السيطرة عليها، يمكن كبتها وتحجيمها وتضخيمها وتوسيطها وضبطها سواء من الفرد نفسه أم من الجماعة. وهي عاطفة لأنها رابطة نفسية بين الإنسان والشيء، أما الشيء (محل الشغف) فيمكن أن يكون أي شيء مادي أو معنوي، يتم محورة كل أو بعض فعل الإنسان حوله، لتحديد هدف قريب (مادي أو معنوي) ولتحقيق غاية بعيدة معنوية هي الحصول على المعنى. هذا الشغف هو ما أفضي إلى ظهور العلوم والفنون والآداب والعمارة، والاكتشافات، والمخترعات، والغزوات، والامبراطوريات، والمؤسسات، وفكرة الدولة الحديثة...الخ. فإن انتفى ذلك الشغف وارتد الإنسان إلى الحيوانية، فقد كل ما سبق، مكتفياً بما هو قائم وحاضر. لذلك فإن تدمير الشعوب يبدأ من تدمير الشغف، فتظل شعوباً ساقطة في صورتها الجامدة، فاقدة لروح المغامرة والاكتشاف، اكتشاف الذات من خلال اكتشاف العالم بالانفتاح عليه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة