رفضتُ لأكثر من عام وصف حرب إسرائيل على حماس والرعب الذي تُنزله بالفلسطينيين في غزة بالإبادة الجماعية، لكنني الآن أشعر بصدمة عميقة مما أشهده. إن لم يكن ما أراه إبادة جماعية، فلا أعرف ما هي. حضرتُ في العام الماضي حفل تخرج كلية ميلمان للصحة العامة في جامعة كولومبيا. كانت الطالبة التي اختيرت لإلقاء كلمة نيابةً عن الطلاب امرأةً عربية. تحدثت في البداية عن تجربتها في الجامعة كطالبة، ثم انتقلت إلى حرب غزة. استشهدت خلال خطابها بكلمة “إبادة جماعية” عدة مرات في وصفها لأنشطة إسرائيل الوحشية وهجومها على غزة.
شعرتُ في ذلك الوقت بالغضب، مُعتقدًا أنه على الرغم من ارتكاب إسرائيل العديد من الجرائم في تنفيذها لحربها ضد حماس، إلا أنها لم ترتقِ إلى مستوى الإبادة الجماعية. لكن خلال الأشهر القليلة الماضية، وبينما كنتُ أُراقبُ الرعبَ المُتكشفَ الذي يحدثُ في غزة – التدميرُ الشاملُ للبنيةِ التحتية والقتلُ العشوائيُّ للرجالِ والنساءِ والأطفال والانتقامُ الواضحُ الذي يمارسهُ الجنودُ الإسرائيليون والتجويعُ الذي يتعرضُ له المجتمعُ بأكمله – لم يسعني إلا أن أتوصلَ إلى استنتاجٍ مُحزنٍ ومُرعبٍ بأن ما ترتكبُه إسرائيلُ ليسَ سوى إبادةٍ جماعية.
أجل، كيف تُفسِّرُ مقتلَ ما يقربِ من 54,000 فلسطيني، أكثرُ من نصفِهم من النساءِ والأطفالِ وكبارِ السن؟ كيف تُعرّفُ التدميرَ المُتعمَّدَ للمستشفياتِ والعياداتِ والمدارسِ وأحياءً بأكملها، مع دفنِ الآلافِ تحتَ الأنقاضِ، وتركِهم يتعفَّنون؟ كيف تصفُ الجنودَ الإسرائيليينَ الكثيرينَ الذين يتباهونَ بعددِ الفلسطينيين الذين قتلوهم؟ وكيف تُصنِّفُ حكومةً هلَّلتْ لهدفِها المُقصودِ بهدمِ وإبادةِ وتفكيكِ ما تبقّى من غزة ؟
بينما كنت أستمع وأشاهد الرعب المتكشف يومًا بعد يوم، لم أستطع التوقف عن البكاء على ما حدث أمام عينيّ – بل أمام أعين العالم أجمع. ولكن، لم يحدث شيء يُذكر لإنهاء هذه المهزلة المستمرة. تستمر الحرب، وتستمر المذبحة، ويستمر الجوع، ويستمر الدمار، ويستمر الإنتقام والقصاص، مما يجعل اللاإنسانية والوحشية أمرًا شائعًا.
نعم، بكيت بدموع حقيقية، متسائلًا:
أين كل هؤلاء الإسرائيليين الذين يتظاهرون يوميًا لإطلاق سراح الرهائن التسعة والخمسين المتبقين، لكنهم لا يرفعون أصواتهم أبدًا لوقف قتل 54 ألف فلسطيني؟
أين الحاخامات الذين يحمدون الله على اختيارهم؟ أتساءل: هل اختار الله اليهود للتشويه والذبح والقتل؟ هل إسرائيل التي أنشئت على رماد اليهود الذين لقوا حتفهم في الهولوكوست لديها الآن المبرر الأخلاقي لارتكاب الإبادة الجماعية ضد الرجال والنساء والأطفال الأبرياء؟
أين أحزاب المعارضة في إسرائيل التي أصابها الشلل وظلت في حالة خدر مريح؟ لماذا لا تصرخ وتصيح وتحتج ضد حكومة شريرة تُدمر الأساس الأخلاقي لبلدٍ ضحى بروحه على مذبح أشنع حكومة في تاريخ إسرائيل؟
أين الأكاديميون والأساتذة والطلاب الذين ينبغي أن يلتزموا بالقيم الأخلاقية السامية؟ لماذا دفنوا أصواتهم بين آلاف الفلسطينيين المدفونين دون أثر؟
وماذا حدث لما يُسمى “أكثر الجيوش أخلاقية في العالم”، جيش الدفاع الإسرائيلي، الذي افتخر بالدفاع عن وطنه ثم تحوّل إلى أكثر القوى انحطاطًا، مرتكبًا جرائم وحشية، بوحشية لا تُوصف؟ إنهم يقاتلون تحت راية كاذبة وهي إنقاذ البلاد من عدوٍ لدود، بينما في الحقيقة يُدمرون إسرائيل من الداخل، تاركينها تبحث عن الخلاص لأجيال قادمة.
لقد تربيت على يد والدين غرسا فيّ معنى الرعاية والرحمة ومساعدة المحتاجين ومشاركة طعامي مع الجائعين وتعلّم عدم كره الآخرين أو احتقارهم. لقد تمسكت بهذه القيم منذ صغري إلى يومنا هذا، مدركًا أنها المثل العليا التي دعمتني في أوقات الفقد، وفي أوقات المعاناة، وفي أوقات الحزن، وفي أوقات الأمل، وفي أوقات الضيق، دون أن أعرف ما يخبئه الغد.
لقد سألت أمي في يوم من الأيام،: “أمي، ماذا أفعل بمن يكرهونني ويريدون إيذائي لمجرد أنني أنا؟” فكرت للحظة، ثم قالت: “يا بني، إذا جاءك وحش ليؤذيك، فدافع عن نفسك، ولكن لا تكن مثله أبدًا، أبدًا”. لأنك لو فعلت ذلك، لفقدت إنسانيتك، ولن يتبقى لك الكثير لتعيش من أجله. وبعد صمت قصير آخر، قالت لي: “تذكر يا بنيّ، قانون العين بالعين يُبقينا جميعًا عميانًا”.
قال لي العديد من الإسرائيليين في وجهي إنه ينبغي علينا قتل كل طفل فلسطيني في غزة لأنه بمجرد أن يكبر هؤلاء الأطفال سيصبحون إرهابيين عازمين على إرهابنا ما داموا على قيد الحياة، وينبغي أن نقتلهم جميعًا لمنع ذلك المستقبل. كم هم مرضى ومُختلون عقليًا هؤلاء الناس !!! هل خطر ببالهم أن ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين اليوم هو تغذية الجيل القادم من الفلسطينيين ليصبحوا إرهابيين لأنه لم يعد لديهم ما يخسرونه، والإنتقام لما أصاب شعبهم هو السبب الوحيد الذي يريدون العيش من أجله ؟
لقد فقدت إسرائيل قيمها اليهودية وضميرها وأخلاقها وإحساسها بالنظام وسبب وجودها. إن هجوم حماس الوحشي على إسرائيل يرفضه كل ضمير وإحساس وغير مقبول. ومع ذلك، ذكّرني رد الفعل الإسرائيلي على مجزرة حماس بما علمتني إياه والدتي منذ اليوم الأول: إذا هاجمك وحشٌ، فلا تُصبح كذلك أبدًا، لأنه لن يبقى لك ما تعيش من أجله.
عندما تنتهي هذه الحرب البشعة، لن تعود إسرائيل كما كانت. لقد وصمت نفسها بالعار لأجيال قادمة وألحقت ضررًا لا يُعوّض بيهود العالم وفاقمت من تصاعد معاداة السامية إلى مستويات جديدة وخانت كل ما دافع عنه مؤسسوها. وفوق كل شيء، فقدت روحها، وقد لا تجد طريق العودة من الهاوية أبدًا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة