لعل الأزمة السودانية الماثلة تنحصر في شقين أساسيين: الأول عسكري وأمني، والثاني سياسي له أبعاد وارتباطات خارجية. ولو تركنا الشق العسكري والأمني جانباً باعتبار أن متطلبات حله واضحة وجلية، ولا نقاش حولها ولا تحتاج لتفكير خارج الصندوق؛ فإن تعقيد الأزمة في شقها السياسي، بلغ درجة لم يعد معها الحل متوفراً داخل الصندوق أو في داخل الأطر التقليدية، حيث ذات الأمراض السياسية الموروثة التي أدمنتها النخب السياسية منذ ما بعد استقلال البلاد في 1956، لازالت تمُد لسانها. إن الشق العسكري والأمني من الأزمة متعلق بتمرد عسكري مدعوم إقليمياً ودولياً، ليأخذ أبعاد الغزو الأجنبي بجدارة، وهو الأخطر على الاطلاق على الأمن القومي للبلاد، وقد سبب أزمة وجودية لكيان الدولة السودانية منذ نشأتها. ولا سبيل لحل أزمة الشق العسكري، إلا عبر الحسم العسكري، حيث لا خيارات، أو مساومات سياسية، يمكن أن تجد لها مكاناً حين التعاطي مع أزمة تتعلق بالأمن القومي، وبوجودية الدولة السودانية. والحسم العسكري يمثل قاعدة صلبة لأي مقاربة سياسية غير تقليدية في الشق السياسي للأزمة، وهو مرتبط داخلياً بالجيش الوطني وعقيدته القتالية، وكذلك بالوعي الوطني الذي يتمظهر في أعلى درجاته في المقاومة الشعبية المسلحة. ولحسن الحظ أن الحسم العسكري في هذا الجانب قد قطع شوطاً مقدراً. عقب عام من التمرد العسكري تحولت القوة المتمردة إلى عصابات تنهب وتقتل وتغتصب، بينما حيّد الجيش - حتى الآن - قوتها الصُلبة، فلم تعد تمتلك بنية اتصالية ولا مقرات عسكرية، تستطيع تقديم الدعم اللوجستي والامداد العسكري، وفقدت ما يقارب مائة ألف من عناصرها البشرية. ولقد هُزمت هذه القوة المتمردة (مليشيا الدعم السريع) أخلاقياً قبل أن تُهزم عسكرياً، بسبب جرائمها الإرهابية التي أدانتها تقارير دولية وأممية. والهزيمة الأخلاقية تستتبعها بالضرورة غياب أي مشروعية سياسية يمكن أن تتيح لها أو لداعميها، مجال الدخول ضمن المقاربة السياسية المتعلقة بحل الأزمة في شقها السياسي، فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف. ومن باب ما هو حتمي ومعلوم بالضرورة، وبسبب البعد الدولي والإقليمي التآمري لهذا التمرد؛ فإن الجيش في إطار واجبه الدستوري وحربه المشروعة، لابد وأن يسعى لتعضيد، ولربما خلق تحالفات عسكرية إستراتيجية دائرتها الجغرافية أوسع من الفضاء الإقليمي، وتستوعب الشرق بكل آفاقه وكذا الغرب إن نحّى جانباً التباغض والتدابر. أما الحل لهذه الأزمة في شقها السياسي؛ فيقع بالدرجة الأولى على كاهل القوى السياسية التي يتحمل بعضها كثيراً من وزر هذه الحرب ومآلاتها في البلاد، وقد جعلت من نشاطها السياسي الخارجي منصة إعلامية وسياسية في إطار حملة هزيمة الجيش ودعم المليشيا، وتلكم قوى لا سبيل للتعاطي معها إلا جنائياً وقضائياً. عدا ذلك فقد جاء الوقت لتتبنى القوى السياسية حلاً غير تقليدي تتحرر فيه وتتشافى من أمراضها المزمنة؛ فهي رغم زعمها – كلها أو بعضها - بأنها تحمل مشروعاً ديمقراطياً، إلا أنها تعتمد نهجاً إقصائياً تجاه بعضها البعض وتحكمها المعادلة الصفرية. وهي تعني أن يرتبط مكسبك بالضرورة بخسارة الطرف الآخر. والأسوأ حين يعتقد صاحب ذلك النهج الاقصائي أن ذلك لابد أن يكون مُطلقا أي: مكسبًا كاملا مقابل خسارة كاملة. بينما المعادلة غير الصفرية في اطار قبول الآخر تتيح للطرفين أو لكل الأطراف الربح، وبالتالي تسود البيئة السياسية الراشدة. إذ إنه في هذه الحالة - المغايرة للمعادلة الصفرية - تستقر حالة التوازن في الحقوق والواجبات بين الاطراف وهي سبب رئيس في تحقيق الاستقرار في مجتمع من المجتمعات. إن تقبل الآخر يعني ببساطة احترام الآخر وتقدير وتفهم ما لديه من مفاهيم وأفكار وتقاليد وقيم. بل إن تقبل الآخر يرتبط بقبول الذات بكل ما فيها من قوة وضعف، فإذا تقبلت نفسك وذاتك فلا شك أنك ستقبل الآخر. لا سبيل أن تدعو فئة سياسية واحدة أو حتى تحالف سياسي لإقصاء طرف سياسي، وتحريم العمل السياسي عليه تحت أي مسوغ من المسوغات. من غير الحكمة أن تظل بعض القوى السياسية تجتر مواقفها المتصلبة، وتستخدم ذات الخطاب الاقصائي مع خصومها السياسيين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة