ليس من بعد جرائم دولة الاحتلال الإسرائيلي في غزة ذنب، فليس بعد الكفر ذنب غير أن جريمة اغتصاب حرية الإعلام لها أهمية خاصة ليس لأنها إضافة لجرائم إسرائيلية ضجت بها الضمائر الحيّة حول العالم، ولكن لأنها تفضح ما يسمى بالعالم الحر. ففي عالم اليوم العبثي تمثل المنظومة الغربية إمبراطورية ضخمة ومُلكا عضودا يحكم العالم، عبر وسائل عديدة ومتنوعة تبدأ باستخدام الأقنعة واستراتيجية الإلهاء، بل وقد تنتهي بوضع الأقنعة جانباً والتنكر لدعاوي الإنسانية وحقوقها وتحطيم صنم الحرية الإعلامية إذ أن المناخ الإعلامي الحر والمتنوع ركيزة أساسية لأي ديمقراطية ليبرالية مدعاة. بيد أنه عندما تضطر إسرائيل والمنظومة الغربية الداعمة لكشف الأقنعة فإن المقاومة تكون قد نجحت في صمودها وسيرها في طريق النصر المحفوف بالتضحيات الجسام. فلم يكن العالم ليكذّب الصور التلفزيونية الحية القادمة من غزة، صور جرحت كبرياء الغطرسة الإسرائيلية وعرّت الشعارات الإنسانية المدعاة. لقد نقلت تلك الصور الحية بشاعة قتل الآلة الحربية الإسرائيلية الممنهج الذي شمل الأطفال والنساء قبل الرجال، فقد دحضت الحقيقة المجردة الرواية الإسرائيلية الملفقة. وفي هذا الصدد اتسمت التغطية الإعلامية لقناة مثل قناة الجزيرة بكثافة غير معتادة وتدفق غير مسبوق للأخبار والتقارير والصور. ولم تنجح معها مزاعم حكومة الاحتلال الإسرائيلي بإقناع أحد بأن حربها على غزة هي حرب بين الحضارة والبربرية لأن الصورة التلفزيونية المباشرة أثبتت العكس تماما. لقد شهد العالم تصويت الكنيست الإسرائيلي الاثنين الماضي لصالح قانون يسمح لرئيس الحكومة الإسرائيلية بحظر وسائل إعلام أجنبية تضر بالأمن في إسرائيل، وكان المقصود على وجه التحديد قناة الجزيرة حتى أن القانون سُمي بـ «قانون الجزيرة». والسبب أن الحقيقة المجردة التي ظلت تنقلها قناة الجزيرة هي عند حكومة الاحتلال «تقارير متحيزة». ويسمح القانون بحظر بث القناة ووقف مراسليها ومصادرة أي معدات وممتلكات تخصها. وبعيد اجازة القانون قال حزب الليكود في بيان؛ إن بنيامين نتنياهو سيتخذ إجراءً فوريا لإغلاق قناة الجزيرة وفقا للإجراءات المنصوص عليها في القانون. وقال نتنياهو بعد مصادقة القانون مباشرة «إن قناة الجزيرة لن تبث من إسرائيل بعد اليوم وحان الوقت لطردها». ومضت دولة الاحتلال الإسرائيلي في غيها وهي تصادم قيما على أساسها تسوّق المنظومة الغربية هذه الدولة الشريرة، لعلمها بأن أقصى إدانة يمكن أن تقع عليها من حاضنتها الغربية هي التعبير عن القلق وربما القلق العميق. وبالفعل قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض بُعيد إجازة القانون: إنه «إذا صحت التقارير الواردة عن عزم إسرائيل إغلاق مكتب شبكة الجزيرة الإخبارية، فسيكون ذلك أمرا مقلقا للغاية». وهكذا فعلت الحكومة الألمانية حيث قال متحدث باسم وزارة الخارجية: «تلقينا بقلق نبأ القانون الإعلامي الإسرائيلي الجديد». وحتى الأمم المتحدة أبدت «قلقها» وهي نعامة فتخاء عندما يتعلق الأمر بإدانة إسرائيل أو المنظومة الغربية، وأسد على الشعوب المستضعفة والقاطنة في عالم جعلوه ثالثا. فقد علق المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة على الخطوة الإسرائيلية بقوله: «هذا أمر مثير للقلق كأي تقييد لحق الصحفيين بالعمل». وتتجاهل الحكومات الغربية وبالضرورة إسرائيل شهادات لصحفيين غربيين انحازوا لمنيتهم ولضميرهم الإنساني وقد قالوا كلمتهم في ما يجري في غزة والذي جاء مطابقا لما ظلت قناة الجزيرة تبثه من حقائق الأوضاع الإنسانية في غزة جراء حرب الإبادة التي تقوم بها دولة الكيان الإسرائيلي. بل أن كاتبا بريطانيا محترما مثل بيتر أوبورن يؤكد أن جهود «الجزيرة» تدحض الأكاذيب الإسرائيلية التي تسربل بها الإعلام الغربي وأضحى متبنيا للرواية الغربية. يقول أوبورن: «إن فيلما وثائقيا بثته قناة الجزيرة عن هجوم 7 أكتوبر 2023، الذي نفذته المقاومة الفلسطينية، يكشف الادعاءات الكاذبة والملتهبة عن ذلك الهجوم والكيفية التي شقت بها هذه الأكاذيب طريقها إلى الصحافة السائدة في بريطانيا». مؤكدا في مقال له بموقع «ميدل إيست آي» البريطاني، أن الفيلم، الذي أنتجته وحدة التحقيقات في «الجزيرة»، بأنه رصين، وواضح، ودقيق. وأوضح الكاتب أن فيلم «الجزيرة» يكشف أن القصص الإسرائيلية الملتهبة بشدة، سواء كانت تتعلق بادعاءات الاغتصاب الجماعي أو قطع رؤوس الأطفال وحرقهم، غير مدعومة بالأدلة وأنها أكاذيب مباشرة، ومع ذلك، فقد مهدت للهجوم الإسرائيلي الذي أعقب ذلك على غزة، والذي وصفته محكمة العدل الدولية بأنه من المحتمل أن يكون إبادة جماعية. وخلص أوبورن إلى أن وسائل الإعلام الرئيسية في بريطانيا وثقت الرواية الإسرائيلية الملفقة وروجت لها ووجهت اتهامات بسوء النية لمن يشكك فيها. إن الذي تضطلع به قناة الجزيرة يتصادم مع تريد وسائل الإعلام الغربية التي ترضع من ثدي الصهيونية العالمية، ولذلك يمكن فهم الحملات التي ظلت تتعرض لها «الجزيرة» منذ انطلاقتها في نوفمبر 1996. وقد أشار المفكر الأمريكي المعاصر نعوم تشومسكي إلى الطرق التي تستعملها وسائل الإعلام الغربية وتشمل بالضرورة الإعلام الإسرائيلي، للسيطرة على الشعوب عبر استراتيجيات أساسية، منها استراتيجية الإلهاء، وهي عنصر أساسي في التحكّم بالمجتمعات، وهي تتمثل في تحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل المهمة والتغييرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، ويتم ذلك عبر وابل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التافهة. فهذه الاستراتيجية ضرورية أيضا لمنع العامة من الاهتمام بالمعارف الضرورية في ميادين مختلفة منها ميدان السياسة بحيث تكون العامة منشغلة، دون أن يكون لها أي وقت للتفكير فيما هو أهم. وتعمد هذه الوسائل الإعلامية إلى مخاطبة العامة كمجموعة أطفال صغار، من خلال رسائل كثيرا ما تقترب من مستوى التخلّف الذهني، وكأن المشاهد طفل صغير أو معوق ذهنيا. ومن الأساليب التي ذكرها تشومسكي، استثارة العاطفة بدل الفكر، إذ أن استثارة العاطفة تقنية كلاسيكية تستعمل لتعطيل التحليل المنطقي، وبالتالي الحس النقدي للأشخاص. كما أنّ استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور للاوعي حتى يتم زرعه بأفكار، رغبات، مخاوف، نزعات، أو سلوكيات.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة