Post: #1
Title: برهان : إضطراب الإستيلاء أم الإستبدال العظيم ؟ كتبه كيسر أبكر
Author: كيسر أبكر
Date: 11-29-2023, 03:46 PM
02:46 PM November, 29 2023 سودانيز اون لاين كيسر أبكر-السودان مكتبتى رابط مختصر
من الذي يقف حقا وراء كل هذة الإنقلابات ؟
طريقة حكم السودان منذ الإستقلال تشبه لعبة القط و الفأر ، فلقد بات مألوفا ، بأن أول حكومة تكون ديمقراطية ، ثم تحدث إنقلاب عسكري ثم ديمقراطية ثم إنقلاب عسكري و هكذا دواليك . لكن المثيرفعلا ، لم يحدث قط أن نجحت عملية إنقلابية على حكومة إنقلابية أخرى في السلطة . كما إنها ، لم تتسلم قط حكومة ديموقراطية مقاليد الحكم من حكومة ديموقراطية أخرى ، أي أن جميع الحكومات المنتخبة ديمقراطيا ، لم يشأ لها أن تنهي مدتها الدستورية . والملاحظ أيضا ، بأن مدة عمر الحكومات الديمقراطية في السودان ، تقصر بنسبة النصف تقريبا ، بالنسبة لأية مرحلة ديمقراطية سابقة لها . فيما الواقع ، بأن أنظمة الدكتاتوريات تطول بنسبة الضعف ، بالنسبة لأية حكومة دكتاتورية سابقة لها . لنأخذ مثلا لذلك ، حكومة النميري دامت خمس عشرة سنة ، بينما نظام البشير جثمت على صدر السودان في ثلاثين عاما عجافا . لذلك يساور البعض إعتقاد ، بأن هذة ليست ظاهرة إعتباطية ، إنما إنها عمل محسوب بدقة عقارب الساعة ، و برودة الجليد في دهاليز الدولة العميقة . و إن كان ذلك صحيحا، أي عمل مدبر في الظلام ، فيمكننا أن نتجرأ للقول إذن ، بأن هذة هي تماما طريقة عمل عصابات " الجريمة المنظمة ". و ليس سرَا ، بأن هناك طبقة صفوية في الأحزاب السياسية ، في مؤسسة الجيش ، في غرفة التجارة و الأعمال و المؤسسات الثقافية ، تمَكنت من تأسيس أو تمهيد الطريق لظهورأنظمة أوليغارشية في السودان . و هذا النهج المنحرف لإدارة الدولة السودانية ، هو إستدلال عملي ، لإنعدام الثقة بين المنظومة القابضة ، والشعب المغلوب ، الأغلبية المهمَشة . لكن هناك ثمة تفسير بسيط ، لهذا السلوك الأعور ، هو بأن قواعد لعب النظام الديمقراطي ، بطبيعتها ستنزع حتميَا مقاليد الحكم من تلك الصفوة لصالح مفهوم "سلطة الشعب " وتأمين ضمان فعلي لحقوق الأقليات ، لا تسمح مطلقا " للنخبة القابضة " بإستيلاء و إحتكار السلطة عبر نفق الإنقلابات . ولذلك من غير المدهش حقيقة ، إن في معظم هذة الإنقلابات ، كان العقل المدبر لها هو أحزاب النخبة السياسية نفسها ، التي تأتمن على عملية خلق دولة مدمقرطة و مواطنية حرة . فهذة الطبيعة الغريبة ، لتداول السلطة في السودان ، تبدو و كأنها محاولة مستميتة من قبل حرًاس " الدولة المتعرَبة " لقطع الطريق أمام أي خطر لفقدان قبضة السلطة ، أو لتحييد أي تهديد تحدق بنفوذ و إمتيازات تلك النخبة المدجَنة بثقافة الآخر، و مجموعاتها الإثنية . و ماذا عن الحروبات الأهلية من يقف ورائها ؟ إذن ببساطة ، إنها إستراتيجية " متفقه عليه " للتحكم بزمام الأمور، دون الإفراط ، فيها بأي حال من الأحوال، بغض النظر عن قيم عقيدتها السياسية و الدينية . فتصبح تدبير الإنقلابات و إشعال الحروبات الأهلية هي ألية التلاعب الفعَالة بقواعد الإدارة الرشيدة للبلاد و ذلك بغرض التحكم بموازيين القوة والسيطرة لتبقى محتكرة فقط في قبضة الأقليات المهيمنة . فلا غرو، بأن نمط الدول الإثنودموية ، تضع دائما مقدرات البلد في يد أقلية ، تعتبر نفسها وصيَة عليها ، و هي ظاهرة مستشرية في معظم الدول التي نالت وهم الإستقلال من المستعمر . ولهذا ، تختار تلك النخبة القابضة ، بدقة ، أفرادا من قيادة الجيش ، لطالما تنتمي أغلبيتها لفئة الأقليات المهيمنة و نظرة واحدة في إجتماعات ورش القيادة و مراسم التخريج العسكرية تكشف هذة الحقيقة عارية . بحيث تكون المهمة الوحيدة لهذا الطاقم العسكري ، هي تدريب جيش البلاد ليكون دائما صمام أمان و ضمان لإستمرارية السلطة في يد هؤلاء الحفنة من الوكلاء . فهذة القيادة المختارة تضع الجيش ، الذي في غالبه من الأغلبية المهمَشة ، في حالة جهوزية و أهبة دائمة لتقمع أية حركة مقاومة أو ثورية لأية قوى مناهضة لها . بل هذة الأنظمة المستبدة، توجَه جام غضبها بأسلوب ، العقاب الجماعي ، ضد الأبرياء العزل، السكان الأوائل ، بدلا عن خصومها من المقاتلين . فلقد ثبت بأنها نفسها تقوم أحيانا بهندسة خلق تلك الحركات المسلحة ثم تمسيخها و كذلك توظيف الزعامات القبلية كعملاء لها . و غالبا ما تتم ذلك عبر إبرام صفقات تسويات مشوهة تشبه لحد ما، أسلوب الرشاوي ، مع حملة السلاح ، و تلك الزعامات الرجعية، عوضا عن المعالجات الجذرية . و من المحتمل دائما بأن هذة القوى المناهضة لها تنفجر ، فقط في المناطق التي لم تتأثر كثيرا بقيم " المركز " المهيمن عالميَا ؟ لذلك هذا يظل كمؤشر لخلل التكافؤ بين دول الشمال القوية " المركز " و الجنوب الضعيفة " الهامش " و يعد أمرا طبيعيا اليوم ، في ديناميكية القوة في الجغرافيا السياسية . هنا علينا التذكير ، بأن أسس الدولة السودانية الحديثة ، في الواقع ، تم إستلهامها وفقا لمشاريع حوكمة سياسية مستوردة من مراكز الهيمنة العالمية . نقول ذلك ، لأن هذة الدول المصطنعة هي عبارة عن شركات أو مشاريع لإمبراطوريات عابرة للقارات ، تفرض فقط رؤيتها الأحادية ، دون أية إعتبارات للحضارات الأخرى. ففي فترات ما قبل الإستقلال كانت هنالك أدبيات هستريأ فقه الخلافة الإسلامية في الحكم، السلطنات الإسلامية ، تقلي ، مسبعات ، سنار ، دارفور ، و غيرها . أما ما بعد الإستقلال فإن مشروع ميشيل عفلق " القوميون العرب " البعث و الوحدة العربية ، كان هو منصة الإنطلاقة الوطنية الرئيسية ، لدولة السودان ، ولاحقا إستلمت حركة الأخوان المسلمين ، الراية ، وهو مشروع حسن البنا . و بالرغم من أنه ، كانت دائما هنلك محاولات مستمرة ، لسودنة هذة الإتجاهات و الإيديولوجيات الفكرية ، لكنها كلها تقريبا باءت بالفشل . و بالتالي هي دولة إنفصامية ، بنيت أساسها على أيديولوجيا دينية و قومية ، ليست أصيلة تماما لأكثرية الشعب السودان . مع إنه ليس أمرا معيَبا الإستفادة من تجارب المعارف الإنسانية الأخرى ، عندما لا تستخدم كليَا ، لإلغاء ثقافة و تاريخ السودان الأصيل . و هذا ما حدث حرفيَا قبل و بعد الإستقلال .
فلقد حدَدت مسبقا هوية السودان ، مسيَرة غير مخيَرة " أي هوية مختلقة، لتغدو دولة عربية إسلامية ، دون أية إعتبارات للخلفيات التاريخية الموغلة و القيم الحضارية العميقة لبلاد السودان الأفريقية . و هنا تكمن خطورة خطوة كهذة ، لأن صنع كيان مغلق بهذة الأطر الإيديولوجية ، بدوره حتميا سيخلق مواطنا إنفصاميا ، ذو أفق تفكير مغلق في فقاعة ذهنية منقطع ، بالجملة ، عن الواقع السوداني الأفريقي . فدولة إنفصامية كهذة ستتحكم كليَا على حياة المواطن، بل على قضائه و قدره ، أعني على ساعة بقائه و فنائه . لطالما أية دولة دينية قومية ، بطبيعتها البنيوية ، ستزعم بإنها خليفة الله في الأرض ، أي إنها تنزع و تعطي و تحي و تقتل بمشية الله . إذن ماذا يعني هذا الإنقلاب على الحقائق في الأرض ؟ ببساطة ، إنها كانت بداية سياسة دكتاتورية تمارس الغيبوبة والقهر و الإضطهاد العرقي و الثقافي ضد الشعب السوداني بأكمله . أي إن السودان أصبحت دولة تمت مصادرتها نهائيا، من قبل هذة النخبة ، لتوطَف و تكرَس كل إمكانيات و مقدرات الدولة ، فقط لصالح تلك الأجندة المستوردة . و هذا بالتأكيد ، كله إعلاء لنمط أو بالأحرى ، لأوامر فلسفة ، أو معايير فكر المستعمر المهيمن أو الذي يتحرك نيابة عنه ، في بناء و إدارة أية دولة في النصف الجنوبي. لا شك ، بأن سلسلة من العوامل والنزعات البدائية ، مثل تفضيل الإنتماء المللي و القبلي و الجهوي ، بدلاعن التوجه نحو بناء دولة المواطنة ، ساهمت بفعالية في إنهيار الدولة . غير أن ، هذا السقوط الدراماتيكي يقف ورائه بشكل محوري ، تلك المقاربة الخاطئة للنخبة . فلقد كانت تلك النخبة منذ الوهلة الأولى مسكونة ، بنزعة مكابرة و رغبة قوية لطمس الحقائق النوبية من تاريخ وثقافة في السودان و فرض حقائق جديدة و مستوردة بالقهر و القوة . و هذا بلا شك ، نظرة إستعلائية مستعارة مباشرة من ثقافة المستعمر الغربي و العروبي ، الحقيقة التي مهَدت الطريق منذ البدء لخلق دولة فاشلة ، قابلة للتدمير الذاتي . و بما و إن الإستعمار هو في ذاته حالة غير طبيعية ، فهو بالضرورة يخلق مناخا يسود فيه مشاعر الشك ، الكراهية ،عدم الثقة و التبعية للمهيمن فضلا عن تدشين هويات متناقضة مع ذاتها . فوفقا لتلك الهويات المزيفة ، بات سكان السودان و دول الساحل الأفريقي يسمون بعضهم بعضا عبيدا و خدما بتأثير ثقافات غربية مستوردة و هوية عروبية مزيفة تماما . فلذلك هناك من القوميين العرب من يأنبهم الضمير اليوم ، فيتحملون بمضض أوزار هذا الإنحطاط ، لما بلغ عليها الأحوال المأساوية في السودان و بعض الدول الأفريقية من تخبط في الإنتماء و الهوية و إنسداد متلاحق في دوامة من العنف و البؤس و الجنون . و كل تلكم التراجيديا الإفريقية و الإنسانية ، بسبب رومنسيات العروبة وأوهام المثقفين العرب و المعربين ، الذين ذرعوا في رؤوس هؤلاء البؤساء في السودان و أفريقيا و هلوسة العروبة . لذا ، يدفع الأبرياء في السودان الكبير ، ثمنا دمويَا لعقود بتدمير بلدانهم و ذواتهم و فتح الأبواب للأعداء لنهب الثروات بدون أي أمل أو رجاء في شفاء أو يقظة في الآفاق. فالنخبة " الرعيل الأول " التي تقلَدت زمام السلطة ، في السودان ، هي خلاصة لتلك المدارس الفكرية ، التي مرتكزاتها هي الميل الجارف نحو أنفعالات القومية العربية والإسلامية و أفكار الذهنية الغربية الإمبريالية . فالمدرسة الأولى، هي نفسها نتاج المركز" المهيمن "رسالتها رومانسية وحدوية قاتلة للتنوع ، أما الحركة الإسلامية ، برؤيتها العقدية القطعية للأمور أستباحت حقوق كل من عارضهم، و صنَفهم دينيَا بالخوارج في السودان . وهي أيضا التي تكفلت بالمهمة المقدَسة ، نشر العروبة و الأسلا ـ أموية في أفريقيا ، و لوعلى أشلاء أهلها . أما عن الذهنية الغربية الإمبريالية في النخبة الليبرالية السودانية ، فحدث عنها و لا حرج . فهذا الرعيل ، من الصفوة السودانية ، من الواضح ، إنه لم يولي إهتماما كافيَا بما هو تحت أقدامه ، من كنز ثقافي أسود صمد لدهور بصمت ، أمام كل الغزاوات الإستعمارية . فلذا ، هذة المقاومة المستمرة من شعب السودان، بالرغم من ضعفها ، في الحقيقة هي صمود ثلاث ألف سنة و أكثر ، في وجه الإضطهاد العرقي و الديني و الثقافي و إغتصاب الأرض و العرض . ببساطة ، هي سلسلة من الإبادات التي لا تتوقف أبدا لأن العدو يعرف قيمة تراب بلاد السودان . الجيش كان دائما طرفا في هذة المقاومة و إن وظفته هذة الإمبراطوريات لخدمتها ضد أهله في أغلب الأحيان . غير إن هناك أمرا واحدا كان غامضا للجميع ، وهو أن الجيش و الشعب كانا وجهان لعملة واحدة لهذة المقاومة المستمرة . لنبدأ فقط من قوات ترهاقا ضد الهكسوس و الكنداكة ضد الروم و قوات رماة الحدق ضد الغزو الإسلا- أموي و قوات الملكة رصد الفاطمية السودانية و قوات المماليك بقيادة أبو المسك كافور الأخشيدي ، الى قوات حركة الجهادية في كسلا ضد الخلافة العثمانية ، و كرري ضد الإنجليز و جون قرنغ ضد منظومة الإنقاذ الإسلاموية. فهذة السيرورة النضالية لم تنقطع قط فهي موجودة دائما في داخل منظومة المستعمر و تعمل بصمت ، الجندي المجهول ، من الداخل . في الظاهر هذة القوات كانت تتم دائما توطيفها ضد أهلها ، غير إنها تنتصر في أهلك المحن لصالح أهلها من السودان . فهذة القوات الموغلة في التاريخ ، كانت دائما هي " نواة الأساس " التي تبني عليها قوات و قيادة هذة الإمبراطوريات الغازية ، فهي تعرفها جيَدا ، بإنها ستنقلب عليها يوم ما ، لذلك نادرا ما تؤهل قيادة كبيرة ، من أبناء السودان . فظاهرة اللواء الأبيض ، هي دليل دامغ لتلك السيرورة . هي مقاومة مستمرة ، ضد ثلاث إمبراطوريات متوحشة تمكنت من رومنة و تنصير و تغريب و تعريب هذا الشعب الأفريقي ، وفقا لمصالحها الضيقة ، فقط . علما بأن هذة الشعوب السودانية تعرف الله قبل هذة الإمبراطوريات التي تمتهن الرق و تتشدق أبدا باسم الرب البارئ. لأن الهدف المركزي ، لكل هذة الإمبراطوريات واحد ، وهو سلب هويات هذة الشعوب بخلق نسخ هويات مشوشة ضائعة و مشوهة لصورتها ، ممل يسَهل لها عملية إستغلال كل مقدراتها و نهب ثرواتها و بالتالي السيطرة عليها . فنتيجة هذة السياسة القمعية المستوردة ، هي خلق " حالة سودانية " تكون رهينة لغيبوبة في الوعي و الفكر مما ساهمت في وقوع تلك الفظائع الدموية الجنونية المستمرة بلا توقف . لكن، من المحزن حقا ، أن معظم كل تلك الفظائع الجهنمية ، ترتكب بأيدي الخلاسيين منا بالدرجة الأولى ، ضد النصف الآخر منا ، الأسود القريب المعروف، لصالح الأبيض البعيد الغير معروف . و بطبيعة الحال ، هناك من السود منا من لا يقلون فظاعة لسحق بني جلدتهم ، هذة الإنحرافات سنتناولها بالتفصيل في فصل منفصل . في الحقيقة هذا التمرد المستمر هو ضد " المركز المهيمن " ضد هذة الإمبراطوريات القديمة المتجذَدة ، لكن بسبب التشويش المربك و الهائل للماكينة الإعلامية المهيَمنة ، تظهر هذة المقاومة في شكل حروبات أهلية و قبلية طاحنة . و مع كل ذلك ، ينبغي دائما أن نكن لهذا الرعيل الأول ، الإجلال و الإحترام اللازم ، بخاصة إذا أخذنا في الحسبان عامل العمر ، فبلا شك إن أغلبهم كانوا شبابا متحمسا كما هو اليوم ، بلا خلفية سياسية و ثقافية صلبة لإدارة مهام كبرى في غاية التعقيد ، بالنظر للقدرات المعقدة للعدو الوافد الذي سنَ قوانين اللعبة سلفا ، لصالحها . اللبنة الخاطئة ، و من هم رعاة المنظومة ؟ : السيد محمد صالح الشنقيطي رئيس أول جمعية تشريعية للسودان 1948 وهو من أصول موريتانية ، ساهم مساهمة عميقة في تدريب نواب ووزراء سودان المستقبل على نظم إدارة الحكم ما بعد الإستقلال . و هو ينتمي الى إسرة دينية محافظة لا شك تلك الخلفية ، ساهمت بقوة في تشكيل أفكاره السياسية و الثقافية لصياغة أطر إدارة الدولة السودانية . من المعروف أيضا ، بأن الأب المؤسس للدولة السودانية ، الزعيم الأزهري ، تخرج مع أساطين حركات البعث العربي القومي في جامعة بيروت . و هكذا تبنَت أنظم الحكم في السودان في الوعي و اللاوعي تنفيذ هذا المشروع العروبي و الإسلأ ـ موي في السودان و تصفية كل من يقف في طريقها ، بوحشية شيطانية. و لذلك ، عندما يتعلق الأمر بالعمل السياسي الحزبي ، نجد تقريبا كل الأحزاب السودانية ، بأن كل أيدولوجياتها و أجندتها ، مستوردة مباشرة أو غير مباشرة ، من نمط التفكر الإبدبولوجي للنظم السياسية في الدول العربية القديمة أو ما أسميها " بالنظام العربي القديم " أو من محاكاة النظم الغربية المهيمنة . فهذا يعني عمليا ، ربط أحلامها و طموحاتها بإستراتيجيات لا تمت بذرة بالسودان و لا بأفريقيا القارة . و هذة المشروعات في غالبها هي مشروعات ممتدة للإمبراطوريات القديمة المتجددة ، ذات النزعة الإمبريالية ، القمعية و الإستعبادية في القارة السوداء و العالم . وهو الأمر الذي ساهم في إنفجار الصراعات العرقية و الوجودية في القطر السوداني و القارة بأكملها . و الشاهد ، بعد تجربة مشروع الإنقاذ الإسلأـ موي ، نرى بإنها لم تطرح أية نوايا إيجابية لفكرة الإندماج و الإنسجام مع شعوب القارة الأفريقية ، وهي منها ، بل إنها ترفض جملة و تفصيلا ، أفكار العيش المشترك ، حالة إنفصال دولة جنوب السودان . و عندما سقطت عنها ورقة التوت في حربها في دارفور، كشفت حكومة الإنقاذ نيتها المبيَتة ، بلا حياء، و هي المشروع الأموي. فرأينا فعليَا الإبادة العرقية هناك ، عندما قامت بإطلاق مشروع مليشيات الجنجويد المستعربة و جلبها لفيفا ، من داخل و خارج القطر السوداني . و ما يجري في الخرطوم و دارفور و مناطق أخرى في دول الساحل الأفريقي ، هو صورة من صور ذلك المشروع الإسلأ-موي العروبي المتمدَد . و من سخريات القدر و التلقين ، حتى هذا المشروع نفسه هو إمتداد لأطماع و طموحات إستعادة حلم الإمبراطورية العربية الأموية ، تتم تنفيذها بأيدينا نيابة عنها . و لقد فُضح هذا المخطط بجلاء عندما حصلت المفاصلة في حركة الأخوان ، فلقد رأينا بوضوح بأن تيار الترابي كان غالبيته " المؤتمر الشعبي " الذين يميلون للقطرية ، بينما جناح غازي صلاح الدين ، يميل للخلافة العالمية ، كان غاليبته من الذين يميلون للعروبة . و من المعروف تاريخيا بأن المشروع العروبي تستخدم جميع الإيديولوجيات ، غير أن غايتها النهائية ، هي في تعريب الشعوب التي تقع خارج مدار نفوذها الجغرافي و الثقافي و الديني. و لا غرابة ، إنها تعتمد حرفيَا " كتاب منهج " المستعمر الأوربي ، في تنفيذ تلك الإجندة ، سواء كان ذلك عبر الإبادات العرقية أو الإضطهاد الثقافي و الإستثمارالإستيطاني . فلذلك هناك خطر داهم لبقاء السودان و إنسانه القديم، تحديدا ، و يتمثل ذلك التهديد في ثلاثة أمور 1/ أجندة المشروع العروبي التي تقودها في الحقيقة ، نواة صغيرة ، في الحركة الإسلاـأموية و دائرة ضيقة من قيادات العروبيين في الجيش. 2/ هو نزعة الكراهية المتجذرة ضد اللون الأسود ، وكل شئ ذو صلة به ، علما بأننا جميعا سود ، مهما رفضنا هذة الحقيقة ، وذلك بسبب الدعاية العالمية لصالح هيمنة العرق الأبيض ، وهناك النزعة القبلية القابلة للتلاعب بها من الأعداء . 3/ سياسة قضم الأراضي ، الأوطان و الإستيلاء عليها تدريجيا ، بخلق مناخات الإنفصال و التفتت . ثم الزحف ببطء لتنفيذ نفس الخطط الإنفصالية في هذة الدويلات المفككة مسبقا . مصير السودان تحت رحى نظامين عربيين ، و الهدف واحد : و بالعودة لفكرة تأسيس الدولة السودانية ما بعد الإستقلال ، علينا عدم تجاهل قوة إرتباطها الوثيق بالمنظومة العربية . و بذكر تلك المنظومة ذات الذراع الطويل ، ينبغي أن نشير هنا ، الى وجود نظامين للعالم العربي ، ساهما بشكل حاسم في إنشاء هوية و كيان دولة السودان الحديثة . الأول هو النظام العربي القديم ، الذي ربما مازال يتبنى مشروع ميشل عفلق ، وحدة القومية العربية ، يقف وراءه بقوة ، القوميون العرب و المستنيرون منهم . و يتمثل ذلك في مصرالناصري و سوريا الأسد و عراق صدام و ليبيا القذافي ، و اليمن و لبنان و السودان النميري . و هذا المشروع قوامه فكرة علمانية تهدف الى إقامة كيان عربي موحد من المحيط الى الخليج . فالنظام العربي القديم ، إعتمد خطة عمل بطئ و حذر في الان ذاته ، مبنيَة على أسس الحداثة و التنوير المعاصر . و لقد كرَس في ذلك جهود التعاون الثقافي و التضامن السياسي و الأقتصادي و العسكري لتحقيق الوحدة العربية . بينما لعبت القضية الفلسطينية العادلة ، كرافعة جبَارة ، في إشعال مشاعر المجد و الوحدة و القومية و المصير المشترك . ولكن نظرا للإخفاقات و الهزائم العربية المتلاحقة و التحولات الجيوسياسية الكبرى التي تفاقمت مع الألفية الثانية ، تراجع زخم تلك القضية و معه تراجع ذلك الحماس الوحدوي ، فضلا عن أفول دور الجامعة العربية في المنتديات العالمية . لكن مع إكتشاف وفرة الثروة النفطية في الجزيرة العربية ، حدثت معجزة تنموية مدهشة في دول الخليج . فهذة الطفرة التنموية الهائلة مكَنت دول الخليج أن تسحب بقسوة، بساط معاوية السفياني، من تحت أقدام غلاة القوميين العرب و المستنيرين منهم في النظام العربي القديم . فلقد إستطاعت هذة الدول الخليجية ، توظيف إمكانياتها المالية الضخمة في تأهيل نخبة جديدة من أبنائها في الجامعات الغربية العريقة ، فإكتسبت طرق تفكير جديدة ، بعبارة واحدة : البراغماتية . وهكذا ، إنتقل مركز القرار العربي سريعا ، بعد سقوط نظام البعث في العراق الى دول النفط في المنطقة . و بسرعة لافتة ، تأسست منظومة عربية جديدة ، متمثلة في دول الخليج ، بشكل عام ، تقوم نفوذها بإلاعتماد المطلق على تأثير و نفوذ القبضة المالية والقوة الإعلامية المتدفقة. فلذلك هذا النظام العربي الجديد ، إنطلق مباشرة بإستراتيجية حرق المراحل ، بالركون كليَا ، على طفرة مالية نوعية و الإبتعاد عن سياسة الإيديولوجيات سواء كانت قومية أو دينية . غير أنها حقا ، لم تمتنع مطلقا أو تنحرف كليَا عن هدف تلك الإيديولوجيات . فلقد كانت سرَا ، تستخدمها بالوكالة ، بدعمها لجماعات " متطرفة إسلاموية وأرثودكسية " لتنفيذ تلك الإجندة التوسعية . و إتضح ذلك جليَا ، في مساندتها جهرا العمل الجهادي في أفغانستان ، إبان الحرب الباردة ، فباتت "حليفا موثوقا " للغرب الرأسمالي ضد الكتلة الشرقية الشيوعية . وعندما إنتهت الحرب الباردة ، إنقلب النظام الغربي على حلفائه المجاهدين ، و شن حرب بلا هوادة ضد دوغما الجهاديين . و هنا تورط النظام العربي الجديد ، و أصبح نفسه وكيلا مزدوجا ، بدعم أو بتدمير بقايا الإستشهاديين في مناطق ما و تشجيع الإنفتاح نحو الليرالية في مناطق أخرى . و لقد تزعمت قطر و الأمارات ، بشكل خاص ، و السعودية بدور خلفي في هذة المرحلة للقيام بأدوار مزدوجة و قذرة، بمناصرة الحركات الإسلاموية المتطرفة و المعتدلة ضد النظم العربية القديمة . و رأينا ذلك إبان إنتفاضات و ثورات الربيع العربي في ليبيا ، اليمن ، سوريا ، مصر ، تونس و البحرين . و في كل هذة الإنتفاضات كانت القوة التنظيمية الفاعلة ، هي الجماعات الإسلاموية المدعومة إعلاميَا و ماديَا من دول الخليج . كما ظهرت بوضوح العلاقات المعقدة ، بينها و بين حركات الأرهاب الإسلاموي ، في دول الساحل الأفريقي . و لكن ما يهمنا هنا ، هو تداعيات ذلك المشروع الطموح مع أجندته المتجددة على دولة السودان و دول الساحل و جنوب الصحراء الأفريقي ، تشاد مالي نيجر و بوركينافسو موريتانيا و نيجريا . حيث إنفجر نشاطا محموما للتنظيمات الاسلاموية الأرهابية والحركات التحررية بنهج غير مسبوق في هذا الأقليم من القارة الأفريقية . بطبيعة الحال ، كانت دولة الصومال ، الثرية ، أولى الضحايا ، لسياسة هذا المشروع العروبي فدولة سياد بري كانت علمانية يسارية تحت نفوذ النظام العربي القديم ، و لكن مع سقوطها سيطرت عليها بالكامل الحركة الاسلاموية و أمراء الحرب لطالما كانوا جميعهم مدعومين مباشرة من دول الخليج ، بغرض تفتييتها و إستغلال سواحلها الإستراتيجية. و ينبغي أن نسارع للقول هنا ، بأن دولة قطر مثلا كانت تدعم تمدد المشروع الإسلاموي في أفريقيا ، بينما دولة الأمارات المتحدة تقف وراء الحركات الليبرالية و التحررية المتطرفة ، بخاصة في السودان و دول الساحل الأفريقي ، تباعا . غير أن القاسم المشترك بينهما واحد ، وهو بسط النفوذ العروبي في أفريقيا ، مثلها مثل كل القوى العظمى الإستغلالية في العالم . و ربما القذافي كان أول من راقب أفول النظام العربي القديم ، و كذلك النميري لاحقا ، بإنفتاحه لمشروع الإسلامويين في السودان . بينما شرع القذافي بخفة ، المزج عمليا بين المشروعين العروبي و الإسلاموي في حربه التوسعية في تشاد و مشاريع الوحدة الأفريقية في القارة . فلقد أعلنت الوحدة ، بين ليبيا و تشاد من طرف واحد في بداية 1981 ، لكن تلك الخطوة تمت رفضها و إدانتها بشدة من المجتمع الدولي . فأنشأ القذافي المليشيات المعرَبة و الفيالق الإسلاموية مما خلقت حالة فوضى و عدم إستقرار الى اليوم . غير إن، الهدف الإستراتيجي ، كان منذ البداية واحدا واضحا ، و هو إحلال المشروع العروبي القومي محل مشروع الإستعمار الغربي بشكل خاص النفوذ الفرنسي ، في القارة . بدء الإستبدال كخطوة حاسمة لخلق دولة عرقية مزيفة: و مع إستيلاء الحركة الإسلامية في السودان على مقاليد السلطة ، تمكنت من فعل نقلة رديكالية ، ضد طريقة الحكم التي كانت تسير على نهج النظام العربي القديم ، نشر العروبة بروح الحداثة و التثقيف . و لتجسيد تلك النقلة المتطرفة ، إستغل نظام الإنقاذ الإسلاموي راية الجهاد ضد الجنوبيين و النوبيين " السكان الأوائل ". ثم ترك الباب مشرعا، لكل الإستشهاديين في العالم ليؤسسوا قواعد لعملياتهم الإرهابية في السودان ونسج شبكة علاقات في بقية العالم . وهكذا غيَرت حكومة الإنقاذ سريعا ، العقيدة العسكرية للجيش السوداني في حرب الجنوب ، من قوات محترفة الى جماعات شبه جهادية بائسة . ليس ذلك فحسب ، بل مضت حكومة الإنقاذ في تطرفها ، و أنشأت مليشيات جهادية قوية و متطرَفة ، منها الدفاع الشعبي كجيش بديل مواز . و تزامنا مع ذلك ، إستعانت بمشروع القذافي ، جامعة الفاتح من سبتمبر في دارفور ، و على نسختها أسست جامعة أفريقيا العالمية ، و غيرها من مراكز الأبحاث المتعلقة بأفريقيا بهدف تكوين كوادر قادرة لتحقيق أهداف فرض العروبة و الإسلاموية في أفريقيا ، بالحرف و السيف . و من أجل ذلك ، تبنَت حكومة الإنقاذ بقايا مليشيات العقيد معمر القذافي ، مثل الفيلق الإسلامي " بن عمر ؟؟؟ المتمرد العروبي أصيل أحمد " بوكو حرام في دول الساحل الأفريقي ، الذي أسَس تنظيم التجمع العربي في دارفور ، الذي بدوره أصبح لاحقا ، حجر الأساس لمشروع الجنجويد الدموي . فكرة إنشاء مليشيات في حد ذاتها ليست جديدة ، للنخب القابضة في السودان ، فالبنسبة لها ، هي فقط آلية أخرى مثل آلية تدبير الإنقلابات لإحتكار السلطة . ذلك لأن ، هذة النخبة منذ البدء ، أيضا لا تضع ثقتها مطلقا بالقوات المسلحة السودانية ، لأن افرادها ببساطة ، من جميع عامة الشعب و بخاصة من الأغلبية المهمشة " الناجون من الإبادات ". و ثمة سبب آخر لذلك التوجه ، فلهذة المؤسسة ميزة ثانية ، لا تتوفر في أية مؤسسة سودانية أخرى مطلقا ، فهي تضم كافة القبائل و الشرائح الإجتماعية و الدينية في السودان . و لكن هذة الميزة ، فعلا جعلت المؤسسة العسكرية ، محل شك عند النخبة القابضة، فهي قد لا تنخرط كليا مع الوقت مع تلك المشاريع المستوردة التي تتبناها هذة النخبة . ليست ذلك و حسب ، فهذة الميزة ساهمت ، و إن ببطء ، في خلق روح سودنة وطنية عالية عند أفراد الجيش . وهذة بدورها ، ربما ساعدت أيضا ، من جهة أخرى ، في تعزيز روح السودنة بين المواطنين السودانيين ، بشكل عام و وسط الخلاسيين بشكل خاص . فهذا التطور في الوعي الوطني ، بالرغم من خموله ، سبَب لهذة النخبة منغصات عويصة ، في محطات كان البلاد يمر فيها بأوقات عصيبة . على سبيل المثال، عندما إندلعت ثورة حركات متمردة متفرقة ، في النيل الأزرق، كردفان ، دارفور والشرق و الشمال بشكل عام . و قد يعود ذلك المأزق ، إلى أن غالبية أفراد هذا الجيش من مناطق رفعت فيها مظالم ضد التهميش و العنصرية في السودان . و بما أن هذة النخبة القابضة ، منذ البداية ، أبرمت عقد شراكة ضمنيَة ، مع بعض قادة الجيش ، الأمر الذي أسَس في السودان نظاما شبيه بنظام الأوليغارشيا الفاسد و الإستبدادي . وبالتالي ، هذة النخبة الطفيلية ، إختطفت الجيش و وضعت لها مهمة واحدة فقط : قمع أية بادرة تمرد أو مقاومة لسلطة الدولة الوظيفية . و لكن الجيش ، بالرغم من عمليات غسيل المخ المستمر ، و التحكم و الترصد المتواصل، بطرق شتى كأن أخطرها الهوس الديني و شعارات العروبة ، أظهر العصيان في فترات منقطعة في تاريخ طويل من الخضوع و القبضة الأمنية . بمعنى ، أن قوات الجيش بدأت تدريجيا ، أن تنتبه لخطورة هذة المهمة الإجرامية ، التي تستغل الجيش لتأسيس دولة مفترسة ، و ليست دولة مواطنة دستورية . لذا معظم قادة التمرد القادمين من قلب المؤسسة العسكرية كانوا يطالبون بدولة مواطنة جديدة ، على رأسهم العقيد جون غرنق ، و هناك آخرون قضي نهبهم بطرق غامضة أو إعدامات صورية من جراء رفضهم لسياسات الإبادات العرقية أو أدلجة الجيش كليَا . الأمر الذي وضع الجيش في مواجهة مع أهداف تلك النخبة ، خوادم المشاريع المستوردة .
فهذة التراجيديا السودانية قد تفوق حتى ما جاء في رؤى دانتي عن الجحيم . و لقد إتضحت تلك المعارضة بشكل جلي في مشاريع الإبادات الحديثة ، عندما رفضت باقة من الطيارين تنفيذ عمليات حرق في دارفور و في جبال النوبة و الجنوب . و بالرغم من أن مثل هذة الإتجاهات العصيانية بدأت تزداد في الجيش إلا أن صفوة الحركة الإسلاموية ، في نظام الإنقاذ ، كانت أكثر من قابلتها بنشوة الخلاص . ذلك لأن أي تلكأ لتلك القوات ستدفع في جهة خططها الإستراتيجية ، و هي التخلص من قوة أصبحت لا تؤتمن علي المشروع العروبي الإسلاموي. فلجأت تلك النخبة الإسلاـ موية فورا ، لإهمال أفراد الجيش عمدا ، و الاهتمام المباشر بتكوين مليشيات الدفاع الشعبي الجهادي و تمكينها بإمتيازات مفتوحة ، لتظهر بوضوح كجيش موازي، بل يعتقد إنها كانت في لمساتها الأخيرة ، لتصبح البديل النهائ للجيش السوداني . غير أن ، مفاصلة الإنشقاق بين الإسلامويين حدَت من سرعة تلك المكيدة المباغتة . فلقد كان تيار الترابي ذات الرؤية المحلية ، أو القطرية جعله ، منشقا عن حركة الاخوان العالمية ، تيار غازي صلاح الدين ، الذي يتبنى رؤية التنظيم الأم في الوطن العربي . و بما أن معظم مجاهدي الدفاع الشعبي هم من الموالين في أقصى اليمين لشيخهم ، الترابي ، هؤلاء أيضا تم تجرديهم من إمتيازاتهم و إهمالهم تباعا . فإنخرط بعضهم في صفوف الحركات المسلَحة في دارفور ، تحديدا حركة العدل و المساواة . و بعضهم اليوم يقاتلون بضراوة مليشيات الدعم السريع . و مع حريق دارفور وظَفت حكومة الإنقاذ ، مليشيا الجنجويد العابرة للحدود ، و ذلك القادم من صلب الدفاع الشعبي المنحاز لتيار غازي و التجمع العربي في دارفور ليأخذ مهمام الجيش هناك بهدف إرتكاب جرائم الإبادة و التهجير. الخطوة الحاسمة ـ تطبيع سودنة الجنجويد : ثم بدأت عملية تطبيع سريعة لهذة المليشيات، فبات تعرف بحرس الحدود ؟ و من هناك بدأت عملية توطين و تجنيس رهيبة للمستعربين و الخلاسيين من دول الساحل الأفريقي . ثم بلغ المدد مداه لترقيتها إلى قوات الدعم السريع ، بحيث تم تفويضها تقريبا ، لإستحواذ كل موارد ثروة البلد بدون حسيب . إسم الدعم السريع ، في حد ذاته ، كأنه يكشف ضمنيَا ، بأن المنظومة التي أسست هذة المليشيات تعاني أزمة وجودية ، فلذلك يبدو بأن مؤسسيه لا يريدون به نسف الجيش فقط ، إنما حتى تجاوز النخبة القديمة المتسودنة تدريجيا ، و أجندة النظام العربي القديم . فهناك من يعتقد بجزم ، بناءا على تحليلات عميقة، بأن ثمة دائرة ضيقة من النخبة القابضة ، و أغلبها من القيادت المتطرفة من الحركة الإسلامية ذات ميول عروبية جيَاشة ، هي التي وراء التمكين الكثيف للدعم السريع . عمليَا ، بهدف أن يكون الجنجويد البديل النهائ للجيش السوداني أو المهيمن عليه في أسوأ السيناريوهات . وذلك ، بعدما تأكت لهذة النخبة المؤمنة بالأجندة و الأيديولوجيات المستوردة ، بأن الغالبية من سكان السودان المستعربين ، بدأت تنأى بنفسها عن تلك الإتجاهات المزيفة و المدمرة ، بفضل الإندماج الطويل ، ثورة المعلومات و تجارب اللجوء و الإغتراب . و أخذت تهتم بجدَية بقضايا السودان الأصيلة من تاريخ و ثقافة و حضارة قامت على ظهرها تقريبا باقي الحضارات المعاصرة . بل هناك توجه قوي لحدما ، الآن في هذة المجموعات المستعربة ، بتبنى السودنة و الأفريقانية و تتقبل بنهم حضارتها الأفريقية القديمة ، أي حضارة كيمت وكوش الأسود . فهذا التحول المفاجئ ، في توجهات أهل السودان في الفكر و الوعي، يعني إعاقة حاسمة و فعلية ، للمشاريع المستوردة ، منها المشروع العروبي و الإسلاـ موي " إسلام دولة أموية " في دولة السودان . لذلك ، لن تتردد هذة النواة الصغيرة من رعاة العروبية، بتقديم كل دماء أبناء السودان ، لو تصدوا لهذا المشروع الإسلأـموي و العروبي . و ما يجري في الخرطوم الجنينة نيالا الأبيض و غيرها من جرائم ضد الإنسانية لهي برهان صدق و إخلاص و تضحية من أجل ذلك تحقيق ذلك الحلم الإسلا-موي " العروبي " . و لهذا وقف النظام العربي الجديد ، دول الخليج ، بقوة و بدعم ثابت لنظام الأخوان الإنقاذي ، بخاصة دولة قطر و قديما من السعودية و الكويت . و لكن عندما ظهرت قوة شابة وافدة في غرب السودان ، متمثلة في جماعات الجنجويد حيث شبقت بجموح في مشروع العروبة ، برزت لهم دولة الإمارات المشغولة في تمويل الحركات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي ، في إحتضانهم بعجلة متجاوزة الحرس القديم للدولة المستعربة في السودان . لذلك يعتقد المرء بأن ما بات يسمى بمنظومة الجلابة هي بمثابة التعبير السياسي للنظام العربي القديم ، لكنها منظومة بدأت في عمومها تصحو من غيبوبة عروبية أبدية ، فعلا بتبني سرديات الكنداكة و السودنة ، و بالتالي ، الميل نحو إعادة النظر في قناعاتها الثقافية و التاريخية الراهنة . فهذا الصراع الدائر حاليَا ، دفع جزاء كبيرا من تلك المنظومة لإعادة تشكيل عميق في مشروع السودنة . بينما ، الدعم السريع يعبر بوضوح عن توجهات النظام العربي الجديد و المتمثلة في زعزعة إستقرار و تقويض تاريخ و ذاكرة دولة السودان من أساسها . فالدعم السريع هو أحد أدوات الحركة الإسلامية ، المتماهية كليَا مع طموحات النظام العربي الجديد ، لبسط نفوذها الديموغرافي و الثقافي و الديني و السياسي في دول الساحل و السودان . فلذلك تطمح قيادة الدعم السريع في تأسيس دولة تجمع المستعربين في منطقة الصحراء الكبرى . و يتضح ذلك الهدف بشكل عملي في عمليات التوطين الجارية في أقليم دارفور و في بعض مدن وسط السودان . فعملية التوطين التي تجرى في دارفور و التمكين الغير معقول لقوات الدعم السريع في أجهزة أمن الدولة وإعادة تموضعها في أماكن إستراتيجية حساسة ، كلها كانت تشير بأن هذة ليست محض إجراءات روتينية بريئة. إنها عملية ضخ دم جديد لمواصلة إستكمال المشروع العروبي و الإسلاموي في الدولة السودانية تحت حماية جيش جديد ، عرقي في تكوينه و موثوق فيه تماما ، بدلا عن جيش سوداني وطني مشكوك دائما في ولائه لتلك النخبة القابضة . و بهذة الطريقة تسطيع هؤلاء الرعاة مواصلة الحلم العروبي في أفريقيا ، نيابة عن النظامين العربيين . و من الواضح ، بأن دول الخليج هي من تتبنى هذا الطرح العروبي الجديد ، كما أشرنا في الصلب . ولقد لعبت دولة الأمارات المتحدة ، الدور القيادي حاليَا على مسرح أحداث السودان و دول الساجل الأفريقي . و من المرجح بقوة ، بأن الهدف الإستراتيجي لهذا الحرب ، هو تدمير و تطهير عرقي لقوات الجيش ، ليحل محله جنود المستعربيين و الخلاسيين من الصحراء الكبرى . و عندما تكتمل هذة الخطوة الحاسمة ، تأتي المرحلة الثانية ، وهو تأسيس دولة عروبية أو دويلات ، بقوات عروبية جهادية مؤتمنة عليها . و تكون مهمتها القتالية هو : إبادة السود تدريجيا و تعريب من يمكن تعريبهم باسم الإسلام في كل شبر في أفريقيا بالكامل . إن عمليات بوكو حرام و تنظيم القاعدة في دول الساحل هو تمهيد أولي لإكمال ذلك المشروع العروبي و الإستعماري . قد يبدو هذا الحديث مبالغا و للبعض نوعا من الشطط ، لكن أية مراجعة خاطفة في سجل التاريخ البائد و الحي ، تثبت هذة الحقيقة ، التي تحقق ببطئ السلاحف في القارة الأفريقية ، فقط لاحظ وجود أقليات سوداء أفريقية في شمال أفريقيا . و من هؤلاء بالذات يتشكل جوج المعربين السود ، في كل الأجزاء الجنوبية لدول شمال أفريقيا ، بدون إستنثناء . لذلك ، إنه من السخريات حقا ، أن يتفوق العدو في مكره و فكره الى هذة الدرجة ، ضدنا ، فقط بتطبيق مبدأ سمو اللون الأبيض . و هكذا ، تتم تدمير سود بسود و من سود من أنفسهم ، هؤلاء المعربيين . أنظر فقط في كل شاشات السودان ، لن تجد مذيعة سودانية سوداء " زرقاء " واحدة ، بل تستخدم المساحيق بتعسف واضح ، لجبر الملامح الأفريقية الواضحة لتظهر بيضاء . من هم رعاة الجنجويد ، حقيقة ؟ : نختتم بطرح هذة الأسئلة المعروفة التي ينبغي عدم تجاهلها في خضم هذة المعركة . من الذين أشرفوا منذ البداية ، على تأسيس منظمة الدعم السريع وهل هؤلاء مازالوا موجودون في هرم السلطة السودانية اليوم ؟ من الذي شرَع للدعم السريع بأن تصبح منظمة عسكرية أسرية لنهب ثروات البلاد ، ثم تستخدم أموال السودانيين لإبادتهم ؟ و ما هي أهدافها الحقيقة ، في ظل وجود مؤسسة عسكرية سودانية ذات قوات مسلحة محترفة ؟ و كيف نثق في منظمة ذات عقيدة جهادية تنقلب فجأة ، بين عشية و ضحاها ، الى منظمة علمانية عميلة ملحدة ، تزعم بأنها تقاتل الإسلاميين ، لكنها مازالت تستخدم آيات القرآن عند ذبحها الأبرياء كما كان يفعلها الإسلاـ أمويين؟ لكن في ظل هذا الإرتجاج الذهني و الفكري في المواقف السودانية ، أزاء معركة الوجود هذة ، يبدو بأننا نعاني فعليا من العمى الليل . ففي مثل هذة الأحوال العصيبة ، ينبغى أن تكون الرؤية واضحة ، العدو بين و الصديق بيَن و ليس بينهما شبهات . ففي مثل هذة الأحوال التي تسودها العتمة و الضبابية ، وبالتالي التخبط و الشكوك ، ينبغي إيجاد مركب متوازن من الجدية ، الحذر و جرأة الإقدام لسحق أعداء الوطن. فلا يجب لأشخاص مثل الفريق البرهان ، الراعي الأول ، لهذة المنظمة أن يكون الشخص المناسب لقيادة البلاد ، وهذة المعركة المصيرية في مثل هذا المنعطف الخطير . فنحن نشبهه، مثل الأب الذي ربى إبنا عاقا ، إلا إنه في عهده ، فتح الأبواب على مصرعيه لسياسة التخضم الجامح لمنظمة الجنجويد . فيما مقارنة بسيطة بين حالة جندي القوات المسلحة و جندي الدعم السريع ، تكشف مدى الإهمال و البؤس الذي أصاب القوات المسلحة ، كأنه تعمَد ذلك . وظيفة الجندي أمر في غاية التعقيد ، بالذات في دولة وظيفية مثل السودان ، و قد يكون الفريق البرهان جنديَا متفانيا ماهرا في الرماية كأجداده ،رماة الحدق ، و تلك مهارة تتطلب قدرة فائقة في دقة التوقيت و التصويب ، و هي عملية متأنية قوامها الصبر ، الجلد ، و برودة الأعصاب . الجنرال برهان ، يتمتع بجملة ما لتلك القدرات ، إذن لماذا كل قرارته تفتقر تماما لدقة التوقيت و التصويب ؟ الأمر الذي يترك دائما عواقب وخيمة ضد لجيش و مفيدة بلا حدود للدعم السريع . و لطالما السودان وقع ضحية في لعبة شائكة في غاية الخطورة ، فإنها بحاجة ماسة لمواقف واضحة و جراحة محدَدة و جريئة مقدامة لإنقاذة . الجنرال برهان قد يكون مخلصا في سودانيته ، نوباويته وظيفته ، لكنه حتما ، تورط في لعبة أدوار قوة قذرة . غير إن وجوده في هرم السلطة في هذة المرحلة ، تضع علامات إستفهام كبيرة حقيقية ، لما وصل عليه البلاد من خطر تفييت محدق و على الشعب أن يستمر بالمطالبة على أجوبة فورية ، لتلك الأسئلة الصعبة . و في هذا السياق ، من المنطقي ، النظر بجدية في مؤامرة الإستبدال العظيم ضد الجيش و الوطن . غير أن ، الحل بسيط و المخرج وحيد ، لهذة الكارثة الدموية و التخبط الإنتمائ : التخلى نهائيا من الأوهام ، من رأس القمة الى القاعدة ، و التمسك بعزة و قوة بعقيدة السودنة لكل شئ مادي أو غير مادي . فضلا عن تسخير و تعميم كل موارد و مقدرات السودان من بشر و حجر و غيرها ، لمواجهة هذا الخطر الرهيب . بالنسبة للتعامل مع واقع هذة المنظمة الوظيفية الشريرة ، علينا أولا أن نعترف بإنها مجموعة مرتزقة ، فيها بعض من المتمردين . لكنها تظل منظمة إرتزاقية ، ليست لها قاعدة شعبية متماسكة و صلبة ، و لا عقيدة وطنية إنما هي أداة لتحقيق أهداف غير سودانية . لتصفية أية منطمة إرتزاقية ، ييجب القضاء مطلقا على مواردها التي تعتمد عليها بتجفيف تام لمنابع تلك الموارد من مال و رجال و إعلام . و ينبغي عدم الإستخفاف و الإستهانة بأي عدو كان حتى إن كان جنجويدا وافدا . لذلك من المهم ، أن تتوحد كل أفراد الشعب السوداني في الدولة ، من شرقها لغربها و من شمالها لجنوبها بدون قبلية ، و لا جهوية و حزبية و لا طائفية ، إنما نقلة واحدة موحدة ، لحماية الوطن و لخلق دولة دستورية سودانية . و إلا سيستمر أطفال السودان و أجيالهم القادمة ، بدفع أثمان باهظة لهذا الجنون . فهذة الحلقة المفرغة من الخراب الدموي و الأخلاقي و القيمي ، هي، نتيجة مباشرة منطقية لكراهيتنا لسوادنا . لذا ، فحتى و لو حدث مليون إنفصال ، ستستمر هذا التدمير الرهيب . لأننا ، نمقت و نكره بوعي و بوعي باطني هذا اللون الرباني الذي كرَمنا الله به ، كأننا نريد الفرار منه ، كمن الذي يريد أن يفر من ظله . حب الوطن و روح الوطنية تنبع مباشرة من حب النفس و الثقة به ، إنعدامها تعني كراهية للوطن و لمن فيه . كيسر أبكر mailto:[email protected]@outlook.com
|
|