قليلون في هذه الحياة من عاشوا حياةً رسالية... كان لحياتهم معناً... وجودهم بيّن الناس ،،، ترحالهم... مُعاملاتهم...... حديثهم... صمتهم.... تأملهم.... ضحكاتهم وسُخريتهم... غناءهُم وموسيقاهم وأناشيدهم... إيمانهم... هادئين حتي في رحيلهم غير مُكلِفين ولا مُتكلفين... الشامخ "خليل الياس" ، كان أحد هؤلاء وبكل الوثوق والطمأنينة واليقين... طوال حياتي وكثير مُقابلاتي لعديد البشر ومن كافة الثقافات والسحنات والديانات وطُرق التفكير لم أجد شخصاً لاتُريد قط مُبارحة مجلسه والجلوس جواره مثل العم "خليل الياس"... فكل دقيقة تمّر وأنت معه لها معناها ومُتعتها الخاصة... العايز يشوف مُناضل سُوداني "شيّوعي" رسالي وحقيقي تجده في شخص "خليل الياس" ... لم يكن من النوعية التي تُحدثك عن "الديالكتيك" و تعسيمات"الماركسية" و الطبقية والطفيليون والبلوتاريا وتلك اللغة التي أُشتهر بها الشيوعيون "مثقفون" وغيرهم ، لا تري فيه ملامح المُتنطعين ولا القاسية قلوبهم ولا المُتحزلقون ولا حتي "الشاويشية" الذي كان يُطلقه مُعلمهم "عبدالخالق" علي نوعية الكادر الشيّوعي غيّر المُبدّع محدود الأفق والفكر والقُدرات ولكنه مُتبعٌ عظيم الإتباع وصارم في شيوعيته كمتصوفٍ مُريد.... كان "خليل الياس" تسبقه نشأته بمدينة شندي في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي من الجيل الذي تعلّم بساطة الحياة ومحبة البسيطين و الضُعفاء و معني النضال الوطني لنيّل الإستقلال و الحقوق ، وإلتحق بالحزب الشيّوعي السُوداني في مُنتصف و أواسط الخمسينات لكي يكون الجيّل الثاني بعد المؤسسين الأوائل للحزب ، ومن الذين وقع عليهم ضمن آخرين "بررة" حِمل مُصادمة المجتمع الذي لايعترف بشيّوعي "كافر" بحسب الدعاية المُضادة ضد الحزب وقتها ، لكنهم إستماتوا في الدفاع عن الكادحين والعُمال يدفعهم في ذلك أن موجة اليسار حينها كانت "شيّوعية" ولها ثقل عالمي إشتراكي أُممي وتمدد في كُل دول العالم الثالث وحركات التحرر الوطنية.... ولأنه كان بطبعه "ديمُقراطي" وشاب وجهُّه الحزب ليكون في طليعة حركة الشباب وإتحادها ، والتي كانت من أهم أجنحة الحزب وقتها التي يُعول عليها في التواجد بيّن أكثر الفئات نشاطاً في الطلبة والمُبدعين و المُثقفين و الأُدباء والشُعراء والفنانين والمسرحيين والموسيقيين والرياضيين نساءً ورجال... وكان أحد رؤسائه التاريخيين والمُنتخبين ديمُقراطياً ، وإمتدّ عطاؤه حتي للخارج فكان نائباً لرئيس إتحادهم الديمُقراطي العالمي في عز ألق الإشتراكية في أوروبا والعالم الثالث... ساهم في تعليّم الآلاف من الطلبة المبعوثين لدول شرق أوربا ليتخرجوا في كافة المجالات ويخدموا بلادهم وغيرها من حيث إختاروا الإستقرار والعمل ، عندما تم إعتقاله وحبسه بعد أحداث ١٩ يوليو ٧١ كانت صوره تطوف في تظاهرات الطلبة في أوربا كشخصية تمثل الشباب العالمي.... سُجن ٧ سنوات متواصلة ، ولم يخرج إلا بعد ما عُرف بالمُصالحة في عهد مايو ، كإحدي أطول فترات الإعتقال المتواصلة للمُناضليّن والمُعتقلين السُودانين في زنازيّن الديكتاتوريات و الحكومات العسكرية.... فتّحنا نحن وبحكم صداقته الأثيرة والمُقربة جداً "لوالدي" عليه رحمة الله ، علي هذا الرجل وتعلّمنا منه الكثير إنسانياً وتعلقاً وتشبثاً بحياة لها معناً وأهداف ورسالة كي نعيشها ونحياها ، كنت محظوظاً جداً بمُلازمتي شبه الدائمة له لأعوام طويلة خاصة مرحلة الشباب الأولي وكثير تنقلاتي معه وقُربي منه ،،، بعض الشخصيات تُعللمك حتي بنظرتها وصمتها ، ورُغم إختلافي التنظيمي والفكري مع ذات المؤسسة التي إنتمي إليها كلانا مع فارق التجربة و مسيرة الأجيال إلا أنني لايزال لديّ إحترام عظيم لكُل الرساليين هنالك ممن عرفت وعايشت وكان للعم "خليل الياس" دور كبير وأساسي في تعريفي بهم وبتفاصيل تاريخ الحزب ورجاله المُناضلين الحقيقين مما لم يُتاح لكثيرين جداً غيري من جيلي ومن أتي بعدنا..... أنا مديّن لهذا الرجل بالكثير جداً من التعللم والمعرفة ، التي لن تجدها في الكُتب والجامعات والمؤسسات التعليمية... أفتقده جداً ولكني أستحضر دائماً روحه الوسيمة في محاولات التغلب علي مصاعب الحياة والصبر عليها والجلّد بذات هرولتي إليه عندما كان حاضراً وإلتماسها لديه وفي حضرته.... تفتقده أسرته الصغيرة وأهله وجيرانه والكثير من أصدقائه فهو كان يُصادق مختلف الأعمار وليس فقط عُظماء جيله وشامخيه من الرفاق والزُملاء ،،، إنسان كُتب له القبول وإن عاش بتواضع كبير ومحبة عظيمة للعطاء غير المُنقطع والتأدب الحياتي الإنساني الكبير..... حيّاك الغمام "عم" خليل الياس في ذكري رحيلك الثانية "١٢ أكتوبر" وحيّا روحك التي لاتزال تطوف حولنا تبتسم إلينا ذات الإبتسامة وفي أُذني لاتزال ترن ضحكاتك وهمسك وأنت كلما تريد وداعي "شّد حيّلك يا نضال يا إبني شدّ حيّلك".... عفواً عم خليل وأنا أكتب لك وعنك الآن ، تُمطر عندنا السماء ،،، وتذكرت كُلما هنأتك "بالدرب" أو مهاتفةً بذكري أكتوبر التي صادفت شهر رحيلك وأقول لك لحظتها ( بإسمك الأخضر يا أُكتوبر الأرض تُغني ،، فتكمّل أنت من عندك بعبقرية والسماء!!).... نضال عبدالوهاب 12 أكتوبر 2023
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة