إنني جاف جداً، لا أحب المثالية أبداً، لأن من يتحدث بمثالية سيورطه الواقع حتماً في انتهاكها. كهوبز تماماً أتحدث، وكنيتشه أفكر، وكميكافيلي أنصح. ليس كأفلاطون، ولا كمسكويه، ولا كراسل، ولا كغيرهم من المثاليين الأخلاقيين. لأنني اتعلم من تجاربي في الحياة عبر الملاحظة الدؤوبة والمستمرة. ومُنتهى المقول في بناء الحضارات والدول، أنها لا تُبنى بالأحلام كما يفعل الشعب السوداني؛ الذي هو ظاهرة صوتية مملة.(حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي)..خليك نايم لتستمر في الحلم. الشعب الذي يقول أكثر مما يفعل، يتحدث بمثالية، وهو بعيد عنها تماماً. يتحدث الشعب عن الدموقراطية، وهو إقصائي إستحواذي، لا يقبل حتى وجود الآخر القانوني. يتحدث عن الحرية، وذات الشعب يمارس تنمراً على مراهقين مثليين في موقف جاكسون ويمارس عليهما إرهاباً جماعياً مخزياً، يتحدث عن العدالة، وهو أكثر من يمارس الظلم؛ كل الأنظمة منذ الاستقلال، شكلتها قوى تنتمي لهذا الشعب، وكلها مارست ظلماً شنيعاً ضد من لا ينتمي إليها، كانوا يدوسون بعضهم البعض حتى الموت، حتى في ظل الانظمة التي من المفترض أن تكون دموقراطية، ولذلك جاء الكيزان بغلهم ورواسبهم فداسوا غيرهم، وهاهم الشيوعيون بدورهم يدوسون غيرهم. وليس فقط الكيزان. بل انتهى الأمر إلى تحالف يساري إسلامي غريب الشكل كالبغل الذي لا هو حمار ولا هو حصان يشي عن انعدام القناعات والمبادئ. يتحدث الشعب عن دولة القانون، وأنت لو التفت برأسك يمينا أو يساراً رأيت الرشاوي والفساد من أصغر مواطن لأكبر مسؤول، ولرأيت اتساع الذمة وضعف الضمير. إرمِ محفظة نقودك فقط، وراقب من بعيد كيف لن تبقى لثانية واحدة قبل أن تخمشها يد امرأة أو طفل أو رجل كالصقر، وتخفيها بين طيات ملابسها أو تحت ثديها، وهو نفسه ما يفعله الكبار (في مقام الحرمنة)؛ فالوضاعة الأخلاقية واتساع الذمة علامة تجارية. لذلك علينا أن نفكر أكثر وأكثر، أن نفكر بمنطقية، وبعيداً عن المثالية، بواقعية، وباستصحاب طبيعة البشر هنا. لكي نضع نظاماً منطقياً كما تفعل عصابات النهب المسلح. إن العصابات الإجرامية تضع لنفسها حداً أدنى يتعهد فيه أعضاؤها على سرقة ونهب اي شخص ما عدا السرقة من بعضهم البعض، وإلا تفرقت تلك العصابة وتشرذمت. هذا ما يجب أن نفكر فيه. أن نبني نظاماً يتأسس على ثقافة البؤس والفاقة وانعدام القيم. إن كل الأنظمة السودانية اقتربت من ذلك حينما باشرت المحاصصات، كما تفعل اليوم أيضاً. إنهم يُشركون بعضهم في السرقة ولكن تحت قيادة هرمية فقط (وبحسب الدرجة يكون النصيب). أي عصابة لها قيادات وقواعد. وهذا النظام فاشل لأنه جزئي. لقد توصل البشير في أواخر حكمه إلى هذه الحقيقة، فإما أن يأكل اللصوص كلهم أو يجوعوا كلهم. ولكن لن تقبل فئة أن تجوع وأخرى شبِعة. لذلك قام بما يسمى بالحوار الوطني. والذي تدافع إليه جميع اللصوص الكبار، والموهومون، وأصحاب الطموحات. وبالفعل لم يخرج منهم أحد لم ينل نصيباً من المال المسروق. عندما هدد نظام البشير البشير بحل بعض المناصب قال النائب حسن صباحي بكلمة صدق وحيدة في هذا البلد الهامل؛ قال: (نحن ضقنا الحكم لو قعلتوا مننا بنبكي و بكانا شين). نعم إن بكاءهم شين وقبيح. وجميع الذين يتحدثون بمثالية كاذبة عن الدموقراطية والعدالة اليوم سيبكون وبكاؤهم (يطمم البطن). عندما خرج الصادق من تحالف الحرية والتغيير، رفض أصحاب المناصب من حزبه تقديم استقالاتهم، والبارحة، يرسم الشيوعي حركة في شكل وردة على سطح الماء، وكوادره في السلطة وسيظلوا فيها. وهكذا يفعلون دائماً. هنا يجب أن نقف مع أنفسنا وقفة جادة، وأن نتحدث بصدق لنجد حلولاً تتفق مع واقعنا وطبيعتنا، وقيمنا إن كان لنا قيم. وذلك لبناء نظام فاعل، ولو كان أقل مثالية مما نطمح إليه. بحيث يُضمن فيه ألا يبكي البعض بكاءً (شيناً). وعلى ماعون المحاصصات أن يتسع ليشمل اكبر قدر ممكن من البكائين. ولنسمه نظام البكائين. فكل من يبكي لا نلقمه حجراً، بل لقمة طرية هنية. ومن لا يبكي (ينام تحت السلم حتى يبكي)..وهكذا. هناك فساد؛ إذا فلننظم ذلك الفساد. هناك دعارة؛ إذا فلنجعلها قانونية. هناك نهب؛ إذا فلنضم قطاع الطرق للحكومة فكلهم قطاع طرق في نهاية الأمر... أما أن يخدع الصحفيون والسياسيون والمتعلمون والمثقفون الشعب بالشعارات المثالية، فهذا لن يفضي لنتيجة، بل سيؤزم الموقف يوما بعد يوم. (يتبع)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة