ظل الإرتهان للأجنبي ديدن الشعب السوداني في صراعاته عبر تاريخه الحديث، فمنذ انطلاقة الثورة المهدية لجأت الفئة المناوئة للمهدية طالبة حماية الأتراك ثم البريطانيين، وحتى بعد الاستقلال، كان كل حزب يبحث عن عمالة مدفوعة للدول الأخرى، واليوم يجمع حمدوك كل تاريخ العمالة ليرهن حمايته من العسكر للدول الأجنبية، وبدون أي سبب يتم تدويل السودان برمته، لمصلحة فئة صغيرة، إعلاناً ضمنياً لفشلها في إدارة الدولة. مع ذلك فالشعب كما ظل صامتاً طوال تاريخ الاحتلالات الأجنبية، ثم فصل الجنوب ثم الإحتلال المجلوب من القرزاي السوداني حمدوك..، رغم كل ذلك لا يحرك الشعب ساكناً، ففكرة الدولة وسيادتها بعيدة عن أفق الوعي الشعبي، لكننا لا يمكن حتى أن نتخيل مجرد خيال ، ان يطالب (ليس رئيس وزراء) بل مجرد رقاصة كباريه أو حتى زبال في مصر أو الجزائر أو اي دولة ذات شعب محترم وواعي ووطني أن يطالب بوضع دولته تحت الوصاية الدولية، حتى لو بلغت الدولة حداً من الفاقة وشظف العيش. لو أن رقاصة نادت بذلك في تلك الدول لتم شنقها علناً في ميدان عام. لكن الشعوب السودانية لم تبلغ هذه المرحلة من تطور الحساسية السيادية. يؤكد حمدوك عقليته الرجعية، وأن القلم لا يزيل البلم، وأنه يحمل الجينات الصحيحة المستمدة من كروموزومات هذا الشعب. كانت الطائرة الصغيرة تحلق بي في سماء جوبا متجهة لولاية جونقلي قبل الإنفصال ببضعة أشهر، وكنت متأكداً من أن الشعب لن يقبل بالتفريط في شبر من أراضيه ليقدمها لحركة متمردة. لكنني فوجئت بذلك البرود بعد انهيار الحدود الجنوبية والسقوط في خزي العمالة. كلهم كانوا عملاء، ربما ما عدا جون قرنق، فجون قرنق كان وحدوياً صرفاً لذلك كان لابد من اغتياله، وكرواية جريمة في قطار الشرق لأجاثا كريستي، أغمد جميع العملاء سكاكينهم في صدره، كانت كل الاحزاب القحاطية اليوم وغير القحاطية، قد اندغمت في برلمان الكيزان، الشيوعيون والبعثيون والأميون والإتحاديون..الخ..فقط لأن أمريكا أعطتهم وعوداً، ربما تحققت عبر القحاطة اليوم، مقابل تسليم ثلث مساحة الدولة بكل نفطها وغاباتها ومياهها وخيراتها تسليم مفتاح. كانوا جميعهم مشاركين صامتين في لعبة العمالة إلى جانب الكيزان، والشعب يفتقر لبُعد النظر، شعب غلبان، لا يعرف شيئاً عن الصراع الدولي، ولا يشعر بأنه يملك شيئاً، بل ولا يشعر بأن لديه الحق في مقاومة اللعبة الأمريكية الخبيثة. لم يشعر أحد بخطورة ما يحدث، فالجهل يعمي البصيرة عن رؤية المستقبل. ومستقبل الماضي هو حاضر اليوم. لقد حاولتُ المقاومة وقدمت طعون ضد نزع الجنسيات الجنوبية المخالف للدستور، لكن الدستور نفسه تم تعديله ليتواءم مع المزاج العنصري الساخط على الجنوبيين. أحد أصدقائي كان أمياً وكان مجرد عامل بسيط في العراق إبان الحرب العراقية الإيرانية، كانت الصواريخ الأيرانية تهبط عابرة فوق رؤوسهم، سألته ألم تكن تشعر بالخطر؟ فأجابني ضاحكاً: كنا جهلاء في ذلك الوقت. إن الوعي بالخطر هو صمام أمان للشعوب من الوقوع في الخطأ، بل حتى الحيوانات لا تقترب من النار لأنها تعي خطر النار. أما هذا الشعب فلا يعرف مدى خطورة ان يوضع بالكامل تحت وصاية دولية. هناك تصور خاطئ بأن الإحتلال الأجنبي أفضل من غيره، بل الكثير من الجهلاء يحاولون تجميل هذا التدويل عبر البحث عن نماذج لدول أفريقية، لا زالت هذه الدول تحت الاحتلال الأجنبي بصورة غير مباشرة، فنفطها وذهبها وكل مواردها الاقتصادية تذهب للشركات الفرنسية والأمريكية حتى كتابة هذه السطور. فقط توفر لديها استقرار الفقر. مع تعزيز للانقسامات الداخلية المُبطنة، لمنع تحالف الجماهير الشعبية ضد سرقة ثرواتها. لكن كما حذرنا كثيرا دون جدوى عند انفصال الجنوب وكان الشعب أكثر بروداً من القطب الشمالي، فنحن نعود ونحذر من مستقبل أكثر ظلاماً من الثقوب السودان بعد تدويل السودان عبر العمالة الحمدوكية. ونحن إذ نعلن ذلك ونرفض أي تدويل إنما نسجل مواقفنا للتاريخ، فما هو مقدر ومكتوب سيحدث، لكن بعد عشرات السنين، وحينما ينتظم الوعي (بعد فوات الأوان) سيفتش الشعب في الدفاتر القديمة والوثائق العتيقة، وسيجد مواقفنا هذه فلا يستصرخ حينها أحدٌ: أن لو كان قد جاءنا نذير. قد جاءكم نذير فأعرضتم، فذوقوا ما عملت أيديكم وبالاً من الله والله لا يهدي القوم الجاهلين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة