إن كل قائد يطالب بحقوق أهله المهمشين، أو يفكر في تشارك السلطة مع الجلابة يتم اعتباره متمرداً من جون قرنق وحتى حميدتي، مروراً بخليل ابراهيم ومناوي وعبد الواحد وشيبة ضرار وغيرهم. لكي نفهم سبب ذلك، سنذكر قصة فتاة من الرطانة الشماليين، تم تعيينها في الإذاعة وهي لا تعرف حتى كتابة اسمها باللغة العربية لمجرد أنها من الشمال، في الوقت الذي تقف فيه طوابير من المؤهلين للعمل الاعلامي من الخريجيين. فالعقلية الشمالية لديها طريقة تفكير غريبة، إذ أن الشمالي يعتقد بأنه يجوز له ما لا يجوز لغيره. وهذا الاعتقاد يشرعن له أكل حقوق الآخرين. لذلك وعلى مرأى ومسمع من الناس وعلى التلفاز تكلموا عن قصة تعيين تلك المذيعة التي لم تكن تعرف حتى كتابة اسمها باللغة العربية، وكانوا فرحين ومسرورين. لكنهم لا يضحكون عند تعيين شخص من الهامش، وخاصة إذا لم يكن مؤهلاً، ويعتبرون ذلك شذوذاَ مقززاً. وإن هذا لشيء عجاب. يضع الشماليون أنفسهم كنموذج مثالي، فكل العالم من حولهم إما أنه يشبههم أو لا يشبههم. لذلك لن تجد جملة (ما بشبهنا) إلا عندهم. لن تسمع هندياً ولا مصريا ولا مغربياً يقول هذه الجملة. لأن العالم مؤسس على التنوع والاختلاف. وهذه هي القيمة المانحة للحياة. فكم كانت الحياة لتكون رتيبة لو أن كل الرجال يشبهون بعضهم وكل النساء يشبهون بعضهم كالتوائم. لكن الشماليين لا يفهمون ذلك. إنهم يمنحون أنفسهم أكثر من حقهم، ولذلك عندما يخرجون خارج السودان يعانون معاناة شديدة من عالم أغلبيته لا تشبههم، فحتى لو ذهبت إلى سويسرا أو أمريكا فستجد الشماليين متكتلين مع بعضهم، يأكلون الويكة ويلعبون الكشاتين ويشربون العرقي ولا يحاولوا الاندماج مع المجتمعات التي هم فيها ولا يحاولون اكتساب ثقافات جديدة. ولذلك فهم لا يتأثرون ولا يؤثرون في العالم من حولهم. إن الشمالي يهاجر إلى أقاصي الأرض ويعود كما لو لم يكن قد هاجر.. فعقليته لا تتبدل. وأقصد بالعقلية، طريقة تعاطيه مع محيطه. فهو إما سعيد داخل القطيع (من يشبهونه) أو حزين إن كان خارج القطيع. أغاني الشماليين تعكس كل ذلك، فالعرق المأصل الذي يورث لون ودهب شنقول، وحقي ما بدي وحق الناس بقالع فيه، وغير ذلك من أغاني الهمبتة تعبر بالفعل عن حقيقة العقل الشمالي، وليست مجرد مجازات شعرية. عندما كنت طفلاً في سنة أولى ابتدائي في مدرسة أركويت شمال، كانت هناك أستاذة تدعى (ست سيدة) وكانت كلما دخَلت الفصل أوقفتني على وجهي أمام الحيطة حتى تنتهي من التدريس، ولأن المدرسة كانت بلا أسوار فقد عبر والدي بسيارته قرب الفصل ووجدني أقف امام تلحائط فسألني عن السبب وقلت له بكل براءة الأطفال: لا أعرف. لكنني بعد أن كبرت وبدأت أتذكر الماضي وأعي أبعاده اكتشفت أن (ست سيدة) كانت امرأة عنصرية تكره الحلب. لم يكن هناك أي مبرر لما كانت تفعله سوى العنصرية والحقد على من لا يشبهونها. السودان به الكثير من مثل هذه القصص، والتي أصبحت تتحول إلى عنف ضد من لا يشبهون الشماللين وخاصة الحلب. بل هناك شعور عام لدى الشماليين بأن كل عنف موجه ضد الحلب شيء يفرح قلبهم، ويشفي غليل صدورهم، وربما كان ذلك لأنهم لا يستطيعون توجيه مذمة للحلب من ناحية اللون والشكل والتعليم كما يفعلون مع الزنوج أو من يصفونهم بالعبيد من دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة وغيرهم. فهؤلاء يعتبرون أقل وجاهة من الشماليين، كما أنهم أقل تعليماً، ولذلك فإن الشماليين يكرهون الحلب بعمق ولكن لا يمكن أن يقولوا بأن الحلب قبيحين أو غير متعلمين أو ناس (خلا) أو فكي جبرين..الخ. فعلى قلة الحلب في السودان لكنهم كانوا دائماً من المبرزين في كل الحقول العلمية والمهنية. ومشكلة الشماليين أنهم لا يحبون أحداً، إنهم يكرهون كل من حولهم، يكرهون العرب، ويعتبرون العرب متعنصرين ضدهم، ويكرهون الأفارقة ويعتبرونهم عبيد مجانين، وكل من لا يشبههم مكروه. وهذا شيء غريب جداً. لقد تعاملت مع الجنوبيين وكنت في الجنوب، والجنوبيين لا يعرفون أساساً العنصرية، هم لديهم مشاكلهم القبلية، لكن ليس لديهم مشاكل مع من يختلفون عنهم في اللون أو الدين، وخاصة على مستوى الدين، يمكن أن تجد دينكاوي مسلم وشقيقه مسيحي وأمه وثنية أو لا تعبد أي شي. وكان بإمكان الحكومات الشمالية أن تخترق الشعوب الجنوبية، وتستقطبها، لكن الشماليين أضرتهم عقليتهم التي لا ترى الآخر ولا تعتقد بأن للآخر حقوقاً. هم اليوم يحاولون التقرب إلى أهل الشرق، حتى لا يخسروا المطل البحري الوحيد للسودان، ولكنهم لم يسألوا أنفسهم عن ما قبل هذا التقرب، لماذا لم يمنحوا أبناء الشرق حقوقهم، لماذا أغلب أبناء البجا أميين ولم يدخلوا المدارس، ولماذا لم يوفروا لهم أقل مقومات الحياة الكريمة. ونفس هذا الأمر حينما تم تهميش جبال النوبة، ومنح نوبة الجبال وظائف تافهة في الجيش والشرطة مرتباتها لا تكفي ثمن طلب فول، وتركوهم ليقاتلوا ويموتوا في الجيش ويحصلوا على الرشاوي في الشرطة. يسعد الشماليون بأن تصبح سمعة النوباوي في الحضيض كعسكري مرتشي. بل ويقصون دائما القصص عن أن النوباوي إن لم يسرق فلن يعتبر رجلاً. إنهم يتلاعبون نفسياً بالنوبة، ويخدعونهم، ولذلك فهناك حالة خضوع كاملة من النوبة للشماليين (كما يفعل الكباشي وغيره من النوبة المسيطر عليهم سايكولوجياً) وهذه مشكلة. يقلل الشماليون من الآخر ويستخفون بكل الشعوب الأخرى فهؤلاء عبيد وأولئك أدروبات..الخ حتى يعتقد المهمشون الغلابة أنهم أقل قدرة من الشماليين، ولذلك يحاولون بقدر الإمكان تقليد الشماليين في لبسهم. فلنتذكر مثلاً ذلك الفتى الجنوبي الذي يغني أغاني الحقيبة، ورفعه الشماليون إلى السماء لأنه يقلدهم كما لو كان قرداً في السيرك. لكنهم لم يهتموا حتى بالاستماع إلى أغاني الجنوبيين. وطوال استماعي للتلفزيون والراديو، لم أجد برنامجاً واحداً عن أغاني الجنوبيين أو شعرهم أو لغاتهم ولهجاتهم المتعددة. ظل الإعلام الذي يسيطر عليه الشماليون يمارس ذات الاستخفاف بثقافات الشعوب الأخرى، رغم أن الثقافات الشمالية نفسها ثقافات بدائية. وفي أحد البرامج التلفزيونية انتقد أحد الشماليين بدائية العادات الجنوبية، لكنه نسي أن جلد اصدقاء العريس بالصوت عند الجعليين هي أكثر العادات بدائية وتخلفاً. وأن ختان البنات ليس فقط عرف بل جريمة تسبب عاهة مستديمة للمرأة عندهم، وعندما يضحك الشماليون على لهجات الجنوبيين أو الغرابة فإنهم يمجدون عوجة اللسان الشايقية ويعتبرونها مفخرة. أعتقد أن الشماليين مجانيين حقاً. فلا أحد يعاني من النرجسية وهو كامل الخواء العقلي بهذا الشكل. يمكن أن أفهم افتخار الصينيين اصحاب التاريخ والانتاج بصينتهم ولكن ما الذي أنجزه الشمالي ليدمن كتابة شعر عن نفسه: (نحن ونحن ونحن). وهو لم ينجز لا في العلوم ولا في الفنون ولا في الآداب ولا في الصناعة ولا حتى في الزراعة شيئاً، بل يسرق كل مواشي وذهب ومحاصيل وبترول الشعوب الأخرى. ولو تلفت الشمالي حوله ونظر إلى نفسه فسيجد أن كل ما يملكه هو انتاج الشعوب الأخرى من فرشة الأسنان وحتى الساعة بل والخاتم والسيارة التي يركبها، ومصابيح منزله، وهاتفه، وحذائه، ومكنات الحلاقة والأمواس وأقلام الحبر والرصاص...الخ. مع ذلك فالشمالي لا يتوقف عن مدح نفسه كصاحب امبراطورية (نحن ونحن ونحن). هذا جنون او مرض عقلي. بل ولا يتوقف الامر على شعورك الوهمي بالعظمة، بل فوق هذا تعطي نفسك الحق في الاستخفاف بالشعوب الأخرى. بل والاستخفاف بألوانهم وأشكالهم، فماذا لو أن الله منح الشماليين شكل السوريين واللبنانيين، تراهم ماذا كانوا فاعلين بنا؟ أمان يا ربي. آخر قولنا هو نصيحة للشماليين بأن يحاولوا علاج عقولهم العصفورية هذه، ويكونوا واقعيين مع انفسهم ليكونوا واقعيين مع الآخرين وبالتالي يبدأوا في تغيير ما بأنفسهم، حتى يغير الله ما بهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، الذي منحنا الحكمة، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
أمل الكردفاني
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست