هي في الواقع لم تكن أخطاء بقدر ما كانت ضرورة. كانت بريطانيا تخشى من التمدد الفرنسي عبر السودان الفرنسي غرباً لذلك ضمت دارفور ودعمت حرب دار مساليت التي انتصر فيها المساليت على جيش فرنسا وقُتل القائد الفرنسي. من جهة أخرى كانت بريطانيا تخشى من تمدد المصريين جنوبا وإلى الجنوب الشرقي، لذلك فصلت الشمال والشرق إدارياً. ثم تم غلق الجنوب السوداني. وهكذا حمت مستعمراتها إلى حين عبر تجميع دولة مشعثة القطع ومنحها وحدة غير متناسقة لا أنثروبولوجيا ولا سوسيولوجياً. وأعتقد أنه قد حان الوقت لإعادة الوضع إلى ضبط المصنع عبر الحرب الراهنة. مشكلة الشمال وباقي الأقاليم: وهي مشكلة حقيقية يتم تجاهلها عن عمد منذ الاستقلال ومؤتمر المائدة المستديرة. لقد شكل الشمال الذي تم توريثه إدارة اولة معضلة حقيقيةبالنسبة لباقي الأقاليم التي لم يتم تهميشها بل تم التعامل معها كمورد مالي فقط للأسر الحاكمة. للأسف أدى ذلك إلى صناعة ثقافة سلبية عامة، وهي ثقافة تشرعن للاستيلاء على الثروة وتخزينها أو احتكارها، وكان من الواجب أن يتم ذلك عبر الاستيلاء على السلطة عبر الانقلابات العسكرية التي تقوم بها الأسر والبيوتات الحاكمة، التي أصبحت شديدة الثراء دون أن تراعي الفقر المحيط بها. وكان ذلك بالفعل أكثر ما خدم الخطط الغربية في الحفاظ على تشعث الدولة المصنوعة إلى حين تفكيكها وإعادتها إلى ضبط المصنع من جديد. لقد خدم الشمال تلك الخطط بجدارة حين لم يحاول بناء دولة مؤسسات تحقق الحد الأدنى من العدالة، فقد كانت ولا زالت هناك أسر شديدة الغنى وأغلبية كاسحة شديدة الفقر. تداولت تلك الأسر علاقاتها وشكلت أسلوب حياة ارستقراطي منعزل، جعل باقي الشعوب (حتى في الشمال) تطمح إلى بلوغ أكتافها. لذلك كان البشير -وهو من البلوريتاريا او الطبقة الكادحة- الأكثر ميلاً إلى التقرب إلى الأسر الغنية، فكان دائم التواصل معها، وكان يعقد زيجاتها ويسمي الشوارع والطرق بأسمائها، وكذا الأمر بالنسبة لكثير من الإسلاميين وغير الإسلاميين الذين جاءوا من الطبقات الضعيفة اقتصادياً. ليتفشى الفساد الذي تشرعنه الرغبات النفسية الدفينة باللحاق بالركب. كرس الشماليون ثقافة اقتناص الفرص السهلة، حتى بالنسبة للهامش، الذي بدأ في التحرك عسكرياً لنيل بعض الفتات عبر تهديد سلطة المركز. منذ الاستعمار، تمت صناعة أسر من الهامش عبر دعم بعض رجالات الإدارات الأهلية وخاصة النظار، وبرزت أسماء لتخدير باقي أبناء الأقاليم، كما كان يتم تخديرهم عبر الصوفية ورجال الدين وأولياء الله الصالحين والجهاد في سبيل الله. تلك الأسماء اليوم لن تقف -في هذه الحرب- إلى صف الدعم السريع، لأنها ستحاول الحفاظ على امتيازاتها التي منحتها لها حكومات المركز المتعاقبة منذ عقود. لكنهم -ربما جميعاً- لا يدركون بأن هذه الحرب هي حرب تم التخطيط لها بدقة لبناء سودانات جديدة. وذلك لعدة أسباب، من أهمها، أن النظام العالمي الجديد لم يعد يتحمل وجود بؤر قديمة التوجهات، وتعرقل بتشاكساتها اللا نهائية خطوات تمدد مفاهيم الحداثة والعولمة. فأنظمة الحكم الشمالية ظلت ذات أيدولوجيات كلاسيكية (شيوعية، بعثية، ناصرية، إخوانية، طائفية..الخ)، والعهد القادم لن يكون بأي حال عهداً صالحاً للآيدولوجيات حتى لو كانت آيدولوجيات هشة يتم طرحها لمجرد الاسترزاق السياسي كما يحدث في السودان. إن حكم الشماليين سيظل أكبر مهدد للحضور الحداثوي في السودان، لأن الصراعات بينهم صراعات بلا خطوط حمراء، كما أنها غير منهجية، بل فوضوية، وغير ملتزمة، بل متلونة. على سبيل المثال وبشيء من السخرية، فإن الشيوعيين الذين خرجوا في تظاهرات ضد التحرير الاقتصادي في عهد البشير كانوا هم أول من وقف مع حمدوك حينما شرع في التحرير الاقتصادي، أو على الأقل لم يتخذوا موقفاً صارماً كما فعلوا مع البشير. وعلى العكس من ذلك، فإن الإسلاميين الذين وقفوا مع التحرير الاقتصادي منذ أيام عبد الرحيم حمدي، كانوا هم أول من خرج ضد حمدوك بحجة مواجهة التحرير، وكذلك الأمر في العلاقات مع إسرائيل وغير ذلك من مسائل. وهذه الفوضى أو اللا منهجية، لن تساعد أبداً في مواكبة مخططات ونظم ومناهج النظام العالمي الجديد. بالإضافة إلى ذلك، فإنه ليس من المنطقي أن يستمر نظام غير عادل في خلق توترات في وسط أفريقيا، لأن هذا الوسط الأفريقي مؤثر جداً على باقي أجزاء أفريقيا حتى تلك التي تبدو أكثر تماسكاً كمصر. إن هذه الحرب، ستكون لها إثار إيجابية كبيرة بتفكيك الجيش وإنهاء دولة ستة وخمسين، ونهوض أقاليم كدويلات على منهج أكثر عصرية وحداثوية، وبقاء أقاليم أخرى ترزح تحت ضغط الفقر والجوع والجهل والمرض والحرب الأهلية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة